قالوا لنا : “زمنُ الميليشيات وَلّى”، ونحن، السُذَّج، صَدَّقنا.
في بادئِ الأمر، ولِتَنشيط ذاكرةِ الذين عايشوا الميليشيات وما يزالون، ولتَوضيح مفهوم الميليشيا للذين سمعوا ويسمعون هذه المُفرَدَة من دون تكوين فكرةٍ واضحة وحقيقية عنها، لا بدَّ من التَوضيح التالي:
إنّ الميليشيا مُصطَلَحٌ سياسي عسكري، وأيضاً ذِهنيّ، لتَوصيفِ مجموعةٍ مسلَّحة مَحَلِيَّة، تحلُّ مَحَلَّ الجيشَ النّظامي في حالاتٍ طارئة واستثنائية. وقد وقف منها الناسُ موقِفَين، فمنهم مَن تَبَنّى ما أشار إليه القاموسُ الدَّولي، من أنّ الميليشيا العسكرية لا تخضعُ لِفِكرٍ أو مبدأ، ومنهم مَن اعتبرَ أنّ الميليشيا تتشكَّلُ بفعلِ إيديولوجيا سياسية أو دينية أو عِرقيّة… ولها إستراتيجية تتبدّلُ بحسبِ الظروف أو أَهواء القيادات.
في لبنان، ومع بدايةِ حربِ إِلغاءِ الوطن لاستبدالِه بالبَديلِ الفلسطيني، وتلك كانت مؤامرة موصوفة شاركَت في تَدبيجِها وتنفيذِها جهاتٌ محليّة وإقليمية ودوليّة، تأسَّست ميليشياتٌ شعبيّة كَأَذرُعٍ عسكرية للأحزاب السياسية الطائفيّة المُتناحِرَة. وقد صادرَت قرارَ الدولة بِبَسطِ سلطانِها على الأرضِ والشَّعب، ولكن لأَهدافٍ مختلِفَة: فالميليشيات الفلسطينية و” اليساريّة “، ومَن لَفَّ لَفَّها آنذاك من الدّاخل، كانت ترمي الى إسقاط الدولة والنّظام والكيان، لإعلانِ قيام دولة فلسطين على أنقاضِ لبنان، ما استغلَّهُ بعضُ الداخِلِيين للوصولِ الى الحكم. أمّا الميليشيات المسيحية في ما سُمِّيَ ” المنطقة الشرقية ” من بيروت، فقد وجدَت نفسَها أمامَ أمرٍ واقعٍ مُرّ بعد أن تمَّ تعطيل الجيش، فإمّا أن تستسلمَ فَتُريح العرب والعالم وإسرائيل، وإمّا أن تُواجِه للحفاظِ على وجودها وكرامتها، وهذا كان خَيارَها. ولولا هذا الصّمودُ المُذهِل الذي دُفِعَ ثمنُه آلافٌ من الشهداء، لما بقي الرَّجاءُ بقيامةِ لبنان الموعودة.
كنّا تَوَهَّمنا أنّ وثيقةَ الوِفاق الوطني في الطّائف، قد وضعَت حدّاً للحرب، وفكَّكت الميليشيات لصالحِ الدّولة التي حُصِرَت بها المؤسَّساتُ المُعَسكَرة. لكنّ ما جرى كان مُذهِلاً، إذ لم يُسَلِّم سلاحَه الى أجهزةِ الدولة، إلاّ الميليشيا المسيحية التي استبدلَت يافطة “نموتُ ليحيا لبنان” بِشِعار “نريد ثقافةَ الحياة، لنَحيا ويحيا بنا لبنان”. فطُوِيَت صفحةُ الموتِ، وطُلِيَ قبرُ الحربِ بِالكِلس، ليُسجَنَ ذكرُها الى الأبد.
ولكنّ ذهنيّة الميليشيا لا تزالُ تتمخترُ عندَ الذين لم يُسَلِّموا أسلحتَهم، كما عند المُستَقوينَ بهؤلاء، وما أَتعَسَ ما يأتون من انتهاكاتٍ فاضحة لسلطة الدولة وقوانينها. واللَّبيبُ يُدرِكُ تماماً مَن المقصود بهؤلاء المُستَقوين الإلغائيّين الذين أَفلسوا في الصِّدق، فقادَهم شعورُهم الوَهميّ بالتفوّق الى الإمعانِ في تَشويه الحقيقة تَحويراً وتَزويراً وتَشويهاً، ظنَّاً منهم بأنّ العيوبَ سوف تنتقلُ منهم الى مَن حَصَّنَته منها قِيَمُه. وهؤلاءِ المُستَقوون الذين عصفَ في أَمخاخِهم زمنُ الإنحطاط، والذين لم يعبروا بعدُ الى ضفَّةِ الرقيّ والوَعي في العمل الوطني، يصدرون عن أداءٍ في السلطةِ والسياسة، جُدرانُه إقطاعيّةٌ ممقوتة، فيُزهِقونَ مفهومَ عصر الدّولة ويقودون حربَ رَدَّةٍ الى عصور الظلام. هؤلاءِ الذين أدمنوا الثرثرةَ السيّالةَ العقيمة، والقابعونَ في مجموعةٍ من عِقَدٍ صَعبٌ الشِّفاءُ منها، قد اندلعَت علاقةُ نزاعٍ بينهم وبين المنطقِ والمَعقول، وأنتجوا جملةً من الإرتكاباتِ الشَّنيعة، ليتحوّلوا الى مأساةٍ مُتَجَوِّلَة للوطن.
فإلى الضَجّاجينَ الذين لم “ينظُفوا” بعدُ من تُرَّهاتِهم السياسيّة الميليشيويّة، وما زالوا ينغمسونَ في ممارساتٍ مُغرِضَة، وفي التَوَكُّلِ على النَّسَق التَّحريضيّ في اتّهام الآخرين بالموبِقات من دون الإحتكام الى معاييرِ الإقناع بالحِجّة، وما ذلك إلاّ دليلُ ضَعفٍ وجَهل، أما آنَ الأَوانُ لخروجِكم من الحُفَر لتُرَمِّموا العلاقةَ بين العقلِ والصِّدق؟ أما حلَّ عندكم زمنُ الغَربلةِ لترموا جانباً السَّخيفَ والمُحَرِّضَ واللاّمنطِقيّ؟ أما حانَ وَقتُ أُفولِ ذهنيّة الميليشيات لديكم، لِتُصبحَ في الأذهانِ مجرَّدَ ذكرى؟
وتبقى العِبرةُ في تَفويتِ الفرصةِ على المُستَقوينَ لإستعادةِ الذهنيّة الميليشيويّة الهجينة، لِئَلاّ نقول: كم من الألسنةِ يجبُ أن تُقطَعَ عندنا؟!