كتب طوني عيسى في صحيفة “الجمهورية”:
بالتأكيد، يحرص الرئيس ميشال عون على مراعاة مقولة «التيار عَيْن و«القوات» عَيْن»، وهو سيحاول بقَدْر الإمكان أن ينظر دائماً إلى الأمور «بالعينْتَين»، خصوصاً بعدما بادر الدكتور سمير جعجع إلى القول: «نحن أيضاً كتلة داعمة للعهد». لكنّ المتابعين يقولون: «في الظروف الحاسمة، لا يتردّد الرئيس في الدفاع عن «تياره»، ظالماً كان أم مظلوماً. وفي هذه الحال، طبيعي أن تكون للرئيس عينٌ أقوى من الأخرى!».
الذين يواكبون أجواءَ معراب والرابية في الأيام الأخيرة يتلمّسون اتّجاهين متناقضين:
– الأول هو الحرص الشديد على عدم العودة بالبيئة المسيحية إلى التنازع المؤلم في داخل كل بيت وقرية ومدينة وجامعة ومؤسسة.
– الثاني هو حرص كل من الطرفين على عدم الانهزام أمام الآخر. فاللحظة تاريخية ولا تقتصر على تأليف حكومة يريد كل منهما أن يكون فيها هو الأقوى، بل إنها تشكّل بوابةً لدخول مرحلة طويلة ستشهد «كباشاً» قاسياً حول كل استحقاقات حاسمة لا يريد فيها أيُّ طرفٍ أن يكون ضعيفاً لئلّا يتحوّل «كبش محرقة».
الطرفان يحرصان على مراعاة الاتّفاق بينهما، سواءٌ في شقه المعنوي- النفسي (المصالحة المسيحية ونسيان حروب الإلغاء) أو في شقّه المادي (التفاهم على الحصص والأحجام وتوزيع المواقع داخل مؤسسات الحكم).
ولكن، يبدو أنّ مرارة «الكباش» حول الجانب المادي (المقاعد في الحكومة) تكاد تطيح الجانب المعنوي. فالبعض يستخدم كل ما يتوافر له من أسلحة في المعركة. ولذلك، ارتفعت حدّة الخطاب بين كوادر الطرفين والبيئات الشعبية الدائرة في فلك كل منهما إلى حدود غير مسبوقة منذ عامين.
في هذا الخضم، يحاول عون أن يبقى على مسافة واحدة خارج المناكفات، سعياً إلى تثبيت موقعه المحايد، «بَيّ الكلّ». ولكن، لم يكن واضحاً إذا كان هجوم الوزير بيار رفول القاسي على «القوات» يوضع في خانة «التيار» لكونه ممثلاً له في الحكومة، أم يوضع في خانة عون لكونه أحدَ الأقربين ووزيرَ الدولة لشؤون رئاسة الجمهورية.
في أيّ حال، «مناخ المصالحة» بين «القوات» و»التيار» اهتزّ بقوة في الأيام الأخيرة، بسبب الغليان حول توزيع الحصص والحقائب في الحكومة العتيدة، خصوصاً من جانب «التيار». وكلام رفول وصل إلى حدّ تحريك الغرائز والأحقاد القديمة بين «حزب الله» و«القوات»، وبين الجيش و«القوات». وثمّة مَن يعتقد أنّ التهاب الجبهة حول الحصص يمكن أن يُحرِق تماماً ما بقي من ورود على ضريح المصالحة.
المسألة واضحة: هناك 4 سنوات ثمينة يجب أن لا يهدرَها أيُّ قطب ماروني لتكريس موقعه على رأس الزعامة المسيحية. وهنا يبرز التنافس الذي يبلغ أعلى درجاته بين الوزير جبران باسيل والدكتور سمير جعجع.
ولكن أيضاً، يبرز موقع النائب السابق سليمان فرنجية الذي نام ذات ليلةٍ من نهايات العام 2016 على أمجاد كونه رئيساً للجمهورية، بعد إبرامه تفاهماً مع الرئيس سعد الحريري، قبل أن يستيقظ على «انتفاضة» لعون و»وعدٍ» من الحليف الأقرب «حزب الله» بأنّ «خَيْرَها بْغَيرها».
ظنّ جعجع أنه بتبنّيه ترشيح عون للرئاسة وتَقاربه مع «التيار» في 2016 سيكون قد تخلّى ظرفياً عن رئاسة الجمهورية في تلك الدورة، حيث لا أملَ له أساساً، ليؤسّسَ لنفسه طموحاً واقعياً إلى الرئاسة بعد انتهاء ولاية عون، نتيجة مراهنته على عوامل عدّة:
1 – التغيير في توازنات القوى المحلّية والإقليمية ما قد يسمح بوصوله إلى الرئاسة.
2 – تطبيع العلاقات بين «القوات» و»التيار» سيجعل دعم «التيار» لوصول جعجع أمراً ممكناً، خصوصاً بعد مبادرته مسبَقاً إلى دعم عون في الرئاسة.
3 – أن تكون «القوات» أقوى داخل المؤسسات، في عهد عون، بدءاً من مجلسَي الوزراء والنواب، ما سيتيح لها أن تكون أوفرَ حظاً لبلوغ الرئاسة.
4 – أن تكون علاقاتُ «القوات» أفضل مع القوى اللبنانية المختلفة، ولا سيما منها الشيعية.
حتى اليوم، لم تتوافر هذه المعطيات. والأرجح أنّ جعجع لن تكون له حظوظ واقعية في الوصول إلى بعبدا إلّا إذا حصلت متغيّرات تؤدّي إلى تراجع «حزب الله» كناخب أساسي وعودة 14 آذار إلى تلاحمها وقوتها. وهذا أمر يحتاج إلى انقلاباتٍ إقليمية ليست ظاهرة في الأفق. وفوق ذلك، سيكون على جعجع أن يحصد دعماً شاملاً من قوى محلية مختلفة سياسياً.
في المقابل، بالنسبة إلى الوزير جبران باسيل، فرصة «اتفاق معراب» أرست مبدأ إيصال رأس «التيار الوطني الحرّ» إلى رئاسة الجمهورية، في اعتباره التيار الأقوى لدى المسيحيين. ولذلك، يعتقد باسيل أنّ من السهل أن يكون خليفة عون في الرئاسة كما هو خليفته في «التيار».
وهذا التصوّر يبدو منطقياً إذا استمرت المعطيات الداخلية والإقليمية على حالها. لكنّ المنافسَ القوي لباسيل في هذه الحال سيكون فرنجية لا جعجع. وسيكون على «حزب الله» مجدّداً أن يختارَ بين فرنجية الأقرب إليه سياسياً مع تمثيل مسيحي ضيق وباسيل الذي يوفّر تغطية مسيحية أكثرَ اتّساعاً. وهو في 2016، اختار عون لاتّساع تمثيله المسيحي.
لكنّ فرنجية يصبح خياراً وارداً إذا تعرّضت العلاقة بين «الثنائي الشيعي» و»التيار» أو عون لنكسةٍ ما، أو تبدّلت المعطيات السياسية داخلياً وخارجياً لمصلحة حليف أقوى للرئيس بشّار الأسد. ولكن، في ظلّ المعطيات السائدة، سيكون صعباً إمرارُ رئيس لا يمثّل تياراً مسيحياً واسعاً، فيما الشيعة والسنّة والدروز موجودون في الحكم من خلال زعامات لها أحجامها التمثيلية الواسعة.
إذاً، لهذه الأسباب، تحتدم المعركة اليوم على التمثيل المسيحي بين باسيل وجعجع. والنزاع على عدد الوزراء وحقائبهم، هو رأس جبل سيظهر لاحقاً. ويشمل أيضاً التحضير لتركيبة المجلس النيابي المقبل، الذي سينتخب رئيس الجمهورية سنة 2022.
يستعين باسيل بهالة رئيس الجمهورية للاحتماء أو الاستقواء… فيدافع جعجع عن نفسه بأن يردّ: «نحن أيضاً حراس العهد… لا أنتم وحدكم». ومن مصلحة عون أن يقبل «دعم» جعجع أيضاً لأنه يساهم في تكريس الصورة التي يعمل لها، وهي أنه «بَيّ الكل».
وفي الحقيقة، يتنافس باسيل وجعجع تحت مظلّة «بَيّ الكل».. ولكن على طريقة «بَيّي أقوى من بيَّك». ولكن، عند «الحَشْرة»، مع مَن سيكون «بَيّ الكل»؟
أساساً، يكون ساذجاً مَن يطرح هذا السؤال.
إقرأ ايضاً:
“الحكيم” و”المهندس”.. من يضحك في الآخر