كتبت هيام القصيفي في صحيفة “الأخبار”:
لم تصمد فرحة المسيحيين سنتين بانتهاء الخلاف بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية. أن تتفوّق القوات أو التيار الحر بالنقاط في تسريب اتفاق حول الحصص وتوزيع المناصب لا يقدم ولا يؤخر. المهم أن الطرفين عادا إلى خلافهما السابق، وهما يكرران أنه لن يعود
ما بني على باطل، فهو باطل. يبدو أن هذه هي حال الاتفاق بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية. حين يتحول سبق إعلامي بينهما، بكل الخفة التي رافقته، استعادة للخلاف السياسي القديم وبهذه الحدة، يصبح من الضروري إعادة البحث في الأسباب التي دفعت الطرفين الى هذا التفاهم الذي ــــ في مكان ما ــــ خدعوا به المسيحيين.
وإذا كان التيار والقوات يرفعان اليوم عن نفسيهما مسؤولية ما حصل، وكل طرف يتهم الآخر بما آلت إليه أحوالهما، فان ثمة حقيقة أكيدة تتعدى مجرد تسريب ورقة التفاهم التي كادت تصبح مثل محاضر مفاوضات اتفاق الطائف سرية وغير منشورة، وتتعلق بهذا التحول الخطير الذي سيتحكم في المرحلة المقبلة بمصير العلاقة بين الطرفين.
هل القضية قضية تسريب إعلامي فتتقزم المشكلة الحقيقية الى هذه النقطة فحسب، أم أنها تتعلق بحقيقة النيات التي أدت الى هذا الاتفاق وبما حققته الانتخابات النيابية وما يرسمه الطرفان للمرحلة المقبلة حكومياً ورئاسياً. وعلى هذه النقطة يمكن البناء كثيراً.
أولاً، الأكيد أن ما حصل في الأيام الأخيرة أثبت أن الرهان على هاتين القوتين كي يحققا ما كان يشكو منه المسيحيون من غبن وخلل في تنفيذ اتفاق الطائف وفي استعادة دورهم المفقود كان رهاناً خاطئاً. المسؤولية هنا لا تقع على من راهنوا وآمنوا بقدرة هذا التحول على اجتراح أعجوبة ما، بل على الذين خدعوا الجميع بهذا الاتفاق. وبغض النظر عمن يتحمل المسؤولية، فإن الطرفين أعادا في أيام قليلة كل الخلافات السابقة الى الواجهة ونبشا من القبور كل ما دفن خلال مرحلة توقيع الاتفاق وما تلاها من تهدئة إعلامية وسحب دعاوى بين الطرفين.
إن خطورة ما جرى، تكاد تتخطى مرحلة الثمانينيات. مجدداً، سيدفع المسيحيون ثمن خلافات هاتين القوتين مع فارق غير بسيط أن الخلاف سيجد أمامه ساحة تمتد من الرئاسة إلى السلطتين التنفيذية والتشريعية، وذلك في ضوء متغيرات كبرى تشهدها المنطقة، فيما يحاول الطرفان في هذه المرحلة تكريس تقدمهما كزعيمين وحيدين في الشارع المسيحي.
ثانياً، بات واضحاً أن عنصر الثقة كان مفقوداً منذ اللحظة الأولى لتوقيع الاتفاق بين الطرفين، خلافاً لكل المظاهر الاحتفالية التي رافقته. فإذا كان الحزبان لا يخجلان من هذه الورقة ويعتبران أنها أساسية ومفيدة للقوى المسيحية، فلماذا لم تكشف مضامينها للملأ، كما كشفت أوراق تفاهمات كثيرة غيرها؟ يمكن اليوم وفق ذلك استشفاف بعض ما كان يريده الفريقان اللذان كانا قد باشرا الاتصالات للتنسيق بينهما، إلا أن تسريع خطواتهما تحت ضغط تحرك الرئيس سعد الحريري حينذاك لانتخاب رئيس جديد للجمهورية (رئيس تيار المردة سليمان فرنجية)، ساهم في دفع الأمور نحو المنحى الذي اتخذته، بإطاحة خيار فرنجية وارتسام مرحلة جديدة بين الفريقين.
وبالفعل، تجاوب التيار الحر والقوات مع كل الضغوط والتمنيات من أجواء كنسية وسياسية لطيّ صفحة الماضي بينهما، وعرفا كيف يحوّلان الاعتراض إلى ورقة تفاهم، ساهم عنوانها العريض في إرساء مناخ تهدئة شاملة، وخصوصاً مع تبني الطرفين فكرة إيصال الرئيس الأكثر تمثيلاً لبيئته المارونية الى قصر بعبدا. لكن اتضح مع الوقت أن كل طرف يرغب في ترجمة الاتفاق، بحسب رؤيته لا مثلما كُتبَ، بغض النظر عن إيجابيات بنود الاتفاق أو سلبياتها.
ثالثاً، الخلل بدأ في العلاقة منذ انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، فالقوات اللبنانية تعتبر أن التيار حاول منذ تلك اللحظة إلغاء أهمية دورها في الانتخاب، والتيار اتهم القوات بأنها طمحت منذ اللحظة الأولى الى أن تتصرف كأنها أمّ الصبي في هذا الانتخاب، ولا سيما أن سمير جعجع كان يكرر دوماً حصرية دور القوات ولبنانية الانتخاب.
وبين الانتخاب والحكومة الأولى للعهد، بات معروفاً حجم الخلافات والاتهامات المتبادلة، فالقوات تعتبر أن التيار يريد الهيمنة، والتيار يرى أن القوات تعرقل مسيرة العهد.
رابعاً، شكلت الانتخابات النيابية المفصل الحقيقي للطرفين، القوات اعتبرت أن فوزها بكتلة من ١٥ نائباً دليل على تقدم وضعها في الشارع المسيحي على حساب التيار، الأمر الذي يسمح لها بأن تقول كلمتها وتمشي، علماً بأن التجارب السابقة كانت غير مشجعة بالنسبة الى القوات التي غالباً ما تطيح إنجازاتها دفعة واحدة. والتيار اعتبر أن ورقة التفاهم ساعدت القوات لأنها امتصت نقمة العونيين ضدهم، ما أدى الى نجاحها في الانتخابات النيابية على حسابه، من دون أن يسجل لها انتخابها عون رئيساً للجمهورية.
لكن ثمة مفارقة واضحة تتعلق بهذا التفاهم، تبعاً لهذه المحطات، هو دور الوزير جبران باسيل في عقده ومن ثم في فرطه. فقبل ساعات من التسريب الإعلامي المقصود عبر محطتين تلفزيونيتين بما تمثلان حالياً من اصطفاف معروف، كان رئيس الجمهورية العماد ميشال عون يطمئن الوزير ملحم الرياشي الى أنه سيتولى متابعة ملف العلاقة مع القوات، ولاحقا سأل عون رئيس القوات سمير جعجع عما إذا كان يمانع في لقاء باسيل لتسوية الأوضاع بينهما، فلم يمانع الأخير. وجاء الاتصال بين الطرفين ليترجم لاحقاً بزيارة الرياشي لباسيل، بحضور إبراهيم كنعان. وقبل أن يجف حبر اللقاء الثلاثي، انفجر الوضع بين الحزبين.
لا شك أن جبران باسيل هو المعني كرئيس للتيار بهذه الورقة التي وإن ساهم فيها، إلا أن عون كان المعني الأول بها من جانب التيار. لكن باسيل اليوم يمسك بكل شيء وبتغطية من رئيس الجمهورية، وهو لديه الكثير من الملاحظات على أداء القوات بحيث لا يخفيها. لكن القطبة الأساسية هي أن باسيل أمام تحدّ كبير يتعلق بمرحلة الرئاسة اليوم ومستقبلاً. اليوم، لأن أي تدهور داخلي مسيحي سيتحمل هو مسؤوليته، وخصوصاً أنه راكم أخيراً كثيراً من العداوات السياسية المباشرة، وسيرخي ذلك بظله على العهد، وكذلك الأمر بالنسبة الى تشكيل الحكومة. فكلما تفاقم الخلاف بينهما، تراجع تشكيل الحكومة خطوات الى الوراء. أما مسقبلاً، فإن أي طموح رئاسي معني به باسيل، كما جعجع، بات محكوماً باتفاقهما مجدداً أو قد ينطبق عليهما المثل: من جرب المجرب…
خامساً، بخلاف الانتقاد الذي يوجه لورقة التفاهم لجهة إلغائها القوى السياسية المسيحية الأخرى، من الطبيعي أن ينحصر أي تفاهم بين أصحابه كما هي حال أي تفاهم ثنائي. المشكلة، أن الطرفين المعنيين ألغيا القوى الأخرى لجهة توزع الحصص والمكاسب الانتخابية والوظيفية، ولعل هنا مأخذ القوات على التيار كونه لم ينفذ تعهده بإعطائها الوظائف، ولا سيما الأولى مناصفة، ومشكلة تعيينات كازينو لبنان لم تكن إلا البداية، ومنذ ذلك الحين والقوات تعترض على أداء باسيل واحتكاره التعيينات.
المشكلة الأكبر أن تفاهماً سياسياً لطيّ صفحة خلاف سياسي حاد شكل ضربة كبيرة للمسيحيين، تبيّن أن قسمه الأكبر محصور بتوزع الحصص بعد تبني نظرية تمثيل الأقوياء لطوائفهم، فضلاً عن أن الفريقين حصرا عند ترجمة الاتفاق عملانياً التعيينات بمحازبيهما فقط، بمعزل عن مستوى الكفاءات.
سادساً، حساسية هذا التطور أنه سيضع رئاسة الجمهورية أمام مفصل أساسي. فهي لا يمكنها إلا أن تتضرر، وهي تواجه حالياً عتباً حنبلاطياً وتكتلاً سنياً للحفاظ على صلاحيات رئيس الحكومة في التكليف، ولا تحتاج الى مشكلة إضافية في الوسط المسيحي، علماً بأن هناك في فريق عون من لا يوافق باسيل على كثير من خطواته، حتى لو كانت تجاه القوات، لأن هؤلاء يحمّلونه مسؤولية النتائج المخيبة في الانتخابات النيابية التي ساهمت في تعزيز الخلاف مع القوات.
سابعاً، لم ينتظر التيار والقوات أكثر من سنتين لإعلان النيات حتى دفنا الاتفاق. العبرة ليست فقط في التبريرات والتوضيحات التي يقدمانها للرأي العام المسيحي، بل للقيادات السياسية الأخرى، مسيحية وإسلامية تتفرج على هذا التدهور، مطمئنة الى أن القوى المسيحية لم ولن تتبدل، وأن كل ما جرى من تهجير وحرب وهجرة وتقلص عدد المسيحيين لم يبدل حرفاً في أدائها السياسي. فهل ترغب هذه القيادات أفضل من هذه القوى التي تحارب بعضها بعضاً بدلاً من أن يحاربها الآخرون؟