كتبت كلير شكر في صحيفة “الجمهورية”:
يبدأ مسلسل التشويق مع الرسالة الخطّية التي وصلت إلى هواتف المحازبين العونيين، وبعضِ المفصولين بينهم، تدعو الطموحين منهم لتبَوُّءِ مواقع تنفيذية حزبية، إلى تقديم سيَرِهم الذاتية إلى أمانة سرّ «التيار الوطني الحر».فـ«التيار» يقدِم على مرحلة مفصلية في تاريخه. أقلّ ما يقال فيها إنّها «الانقلاب» على منطق التنافس الحزبي لتبَوّءِ المواقع القيادية، لمصلحة «التملّق» الشخصي و»تمسيح الجوخ». وداعاً للديموقراطية وأهلاً بالحزب الرئاسي ذي الصوت الواحد. كلّ المواقع التنفيذية صارت حجارةً بيدِ رئيسه جبران باسيل. يزيح من يريد ويُرقّي من يريد. لا شورى ولا استشارة ولا رأيَ للقاعدة.
أمّا المواقع المنتخبة، والتي باتت محصورة بالمجلس السياسي والمجلس الوطني المكوّن من مجالس الأقضية، فصارت «ديكور» لزوم ما لا يلزم. فقط «كمالة عدة» الحزب.
قد يجوز هذا المسار في مجموعةٍ نشأت فقط على منطق الشخصانية، والتيار فيه شيء من التبَعية لشخص المؤسس العماد ميشال عون، لكنّ «التيار» مجبول بالحركة النضالية الرفضية القادرة على الثورة على كلّ شيء. كما أنّ بعد عون، الوضع صار مختلفاً. وبينما تتّجه الأحزاب الغربية إلى منحِ مزيدٍ من الهوامش لمصلحة حراك الأفراد، يسير «التيار الوطني الحر» على طريق محاصرة رأيِ الفرد وتكريس التبعية للرئيس.
وبينما يُفترض أن تتركّز جهود قيادة «التيار الوطي الحر» على جذبِ الشباب وطلّاب الجامعات كونهم دينامو ونبضَ الحراك السياسي، دلّ الحراك المدني الى أنّ هناك شرائح كبيرة من الشباب توّاقة للعمل الاعتراضي وترفض النماذج القائمة من الأحزاب… يُمعن «التيار» في قمعِ روح الفرد في العمل الحزبي، وكأنه يقول للأجيال الجديدة: لا مكان لكم بيننا.
بالتفصيل، يتبيّن أنّ «التيار الوطني الحر» وخلال جلسة المجلس الوطني الأخيرة (وهو بمثابة هيئة تشريعية) والتي عقِدت في 7 شباط الماضي أقرّ سلسلة تعديلات على النظام الداخلي، مع العلم أنّ النظام بصيغته قبل التعديل كان السببَ الجوهري وراء الانقسام العمودي في «التيار» بسبب رفضِ المعارضة منطقَ الأحادية وإصرارها على توسيع دائرة القرار.
وبعد نحو عامين على بدء العمل بالنظام، تبيَّن للقيادة أنّ تجربة هيئات الأقضية التي تغنّى «التيار» في اعتماد النظام النسبي لانتخابها، فاشلة. فعلاً ضرَب التمثيل النسبي مفهوم العمل الجماعي المشترك، وأصيبَ عدد من الهيئات بالشلل نتيجة اعتراض أعضائها بسبب عدم الانسجام بين المجموعة، فاستقالَ بعضهم وحلّ باسيل البعضَ الآخر مستعيناً بسلطة التعيين ليملأ الفراغات عشيّة الانتخابات النيابية.
زحلة، عكّار، جبيل، بيروت الأولى، وغيرها من هيئات الأقضية التي شكّلت نماذج من الخلافات داخل البيت البرتقالي التي حالت دون استثمار مبدأ الانتخاب وفق النظام النسبي، وتحوّلت حلباتِ اشتباك عطّلت في كثير من الأحيان دور الماكينات الانتخابية.
بالنسبة إلى المعارضين، العلّة كانت في إصرار باسيل على «تمزيق» هيئات الأقضية من خلال التمييز بينها خلال انتخابات المجلس السياسي، ومنح الأقلية صوتاً كما الأكثرية، في حين يفترض تحوُّل الهيئات وحداتٍ متكاملة تخضع فيها الأقلية لقرار الأكثرية في التصويت. ومِن لحظتِها وقعَ الشرخ ولم يلتئم في الهيئات «المركّبة»، خصوصاً تلك التي نجح المعارضون في إيصالها.
عملاً بهذه الحجّة طرَحت القيادة الاستعانة بسلطة التعيين من جانب رئيس الحزب ليوزّع المحازبين على هيئات الأقضية وفق ما يراه مناسباً. ويفترض أن تصدر القرارات بداية الخريف المقبل، حيث مِن غير المرجّح أن يُبقيَ باسيل على عدد من المنسّقين الذين عيّنهم قبل أشهر، وسيَستعين بسلّة جديدة من الأسماء.
هكذا، سيُمسِك باسيل الأرض بواسطة «رجاله» وسيتجاوز بالتالي النواب «الأقوياء» أو ممّن لديهم حيثيات مناطقية حزبية، لأنه سيكون صاحبَ الكلمة الفصل في كلّ شاردة وواردة.
بالنسبة إلى المدافعين عن هذا المنطق، فإنّ الحساسيات التي أنتجَتها الانتخابات لمواقع تنفيذية، هي التي جوَّفت منطقَ الانتخابات لمصلحة التعيين. كما أنّ فشل أيّ مسؤول في عمله سيعرّض القيادة بشخص رئيسها للمساءلة، وبالتالي ليس من مصلحته تسمية أشخاص غير كفوئين، فقط لأنّهم موالون له.
كما يقول هؤلاء إنّ اعتماد مبدأ التعيين لا يحوّل الحزب حزباً شمولياً، كون الانتخابات لا تزال تتحكّم بمفصلين اثنين أساسيَين في المنظومة الحزبية، وهما المجلس السياسي والمجلس الوطني.
وفق التعديل الجديد، فقد أُلحِق مزيد من الصلاحيات إلى مجالس الأقضية التي ستُنتَخَب في الخريف المقبل والتي تشكّل مجتمِعةً المجلسَ الوطني الذي يُعتبر برلمان الحزب. ولكنّ هذا البرلمان المشكّل منذ أكثر من عامين، والذي يقال إنه يَجتمع كلّ ستة أشهر تقريباً لم يسجَّل له أيّ إنجاز يُذكر إلّا إنجاز تعديل النظام الداخلي. سبق له أن «بصَم» على ورقة سياسة الحزب كما قدّمتها القيادة. أمّا غير ذلك، فلم يُسمع رأي مسائل ولا اعتراض ولا ملاحظة على أداء القيادة، مع أنّ كوب الانتقادات بحق أداء القيادة، وتحديداً باسيل كونه يختصر القيادة، فاض عن حدّه.
فقد بيَّن الاشتباك الأخير بين «التيار الوطني الحر» و»القوات اللبنانية» أنّ ماكينة الأخيرة قادرة على تجييش الإعلام لنقل وجهة نظرها، بينما التيار عاجز عن نشرِ بقعةِ زيتِ تبريراته. باعتراف أهل «البيت البرتقالي»، التقصير فاضح وموجود ومنذ مدة. فـ»حزب العهد» بامتداداته النيابية والوزارية والشعبية، يعاني من قصورٍ في حضوره الإعلامي، لا بل من فشلٍ في تقديم مقارباته، ينقله من ضفّة الهجوم إلى ضفّة الدفاع عن النفس!
لا يكفي الإرباك الواضح في أداء «التيار» والتقلّبات في المواقف، لا بل حتى «الإخراج» ضعيف جداً وغير مقنِع، كما يقول معارضون.
أمّا بالنسبة إلى مستوى الانتخاب الثاني، أي المجلس السياسي، فحالُه من حال المجلس الوطني، لا بل ينفض أحد أعضائه يديه قولاً إنّ المجلس صفتُه استشارية ولا صلاحية له في التأثير على رأي رئيس الحزب، وإذا ما اعترض أحدهم، فتصير أذن باسيل طرشاء لا قدرة لها على السماع. وما استقالة أحدِ أعضائه (نعمان مراد) للترشّح على لائحة «القوات» في كسروان، إلّا نموذج عن الروح التشاركية التي تسود المجلس!
ملاحظة أخيرة، وهي أنّ باب تقديم طلبات التعيين في هيئات الأقضية واللجان المركزية، أقفِل منذ ثلاثة أيام، بعد تمديدٍ للمهلة. المهم هنا، هو أنّ العونيين كانوا يتسابقون على العمل التطوّعي حتى من دون مراكز ومواقع، وإذ بهم «يتغنّجون» و»يتدلّلون» على المواقع القيادية… وكأنّهم غير معنيين أبداً.