آية يونس
لطالما سمعنا عن كرم اهل الشوف اللبنانية وحسن ضيافتهم ولكننا لمسنا ذلك وأكثر بعد تلبية دعوة “لجنة أرز الشوف” و “نادي الصحافة” لعدد من الصحافيين من المؤسسات الاعلامية اللبنانية على اختلافها لتمضية يوم كامل بين أحضان أرز الجبل، الذي بحسب “شباب المحميّة” يعالج نفسه بنفسه ويواجه الصعوبات الطبيعية لوحده. “متّكل على نفسه” تماماً مثل المواطن اللبناني. الّا أن الدور البارز للجنة محمية أرز الشوف بالتعاون مع جمعية أرز الشوف يكمن في حماية الكائنات الحيّة، خلق فرص عمل للسكان المحليين ودعم البحث العلمي ومراقبة الأنواع والتوعية البيئية وتبادل المعلومات المتعلقة بحماية الطبيعة.
تناولنا الفطور في “قصر المير أمين” على تلال بيت الدين في قضاء الشوف بعد استقبال السيدة نورا جنبلاط لنا بأناقتها وباتسامتها الترحيبية الجميلة، ومفوض الاعلام في الحزب التقدمي الاشتراكي رامي الريّس ورئيس لجنة محمية أرز الشوف شارل نجيم ومدير المحمية نزار هاني على رأس فريق من المحمية.
استراحة أقلام حول فنجان قهوة في أرجاء القصر الذي تحوّل منذ العام 1986 الى فندق فخم يطلّ على جبال الشوف الخلابة وافتتحه وزير السياحة آنذاك وليد بيك جنبلاط. وهو قصر الابن الثالث لأبناء الأمير بشير الثلاثة الذين كان لكلّ منهم قصره الخاص، فقصر ابنه البكر، الأمير قاسم، أقيم على ربوة في موازاة القصر الكبير، وقد تهدم معظمه، أما قصر الأمير خليل فيضم حالياً دوائر قائمقامية الشوف.
تألّف القصرمن قسمين، الأوّل هو الجناح الامبراطوري اي الحرملك وهو مخصص لغرف نساء القصر آنذاك وهو القسم الداخلي منه وتغطي الاحجار الملونة ارضيتة. باحته واسعة يتوسطها حوض ماء عريض له نافورة وهو مصنوع من الرخام والفسيفساء. أما الجناح الملكي اي السلملك فهو مخصّص لغرف الرجال وزوارهم وهو القسم الخارجي للقصر، يشتهر بصالة الاستقبال الواسعة الواقعة على يسار المدخل الرئيسي. أبرز ما يلفت في هذا القسم القاعة الصغيرة الواقعة في الجهة الشمالية الشرقية من الباحة الخارجية، اذ تكتسي جدرانها بالاخشاب، كما يطغى الخشب على مختلف الاثاث فيها وتنتشر المخطوطات الخشبية في مختلف ارجائها.
“لؤلؤة بيت الدين” عرف بأسلوبه الهندسي العثماني واللبناني الاصيل وبطابعه الشرقي الذي طال حتى أرضية المسبح التي شكلت لوحة فسيفسائية حفاظاً على الطابع الأثري التاريخي رغم تحويله إلى فندق عصري.
أكملنا رحلتنا باتجاه محترف “عسّاف” في بلدة الورهانية حيث استقبلنا تمثال صخري عملاق للشهيد كمال جنبلاط. وقبل الدخول الى المحترف، جال القيّمون على المكان معنا وعرفونا على أنواع النباتات والأشجار الموجودة فيه ، منها مزروع ومنها برّي مثل الصندل والخلنج والوزّال وبخور مريم والقطلب والخزامة والقندول والصعتر والجوز والسنديان والزيتون والبندق والتوت كبوش والكرز والزعرور ليصل عددها الى ستين نبتة وشجرة.
توجهنا نحو المنزل أي بيت العائلة الحجري المنقّش بالألوان الترابية والذي يضمّ المتحف وبدا لنا من النظرة الأولى اليه أن الأشقاء منصور وعارف وعسّاف يعرفون أهمية الطبيعة ويقدرونها. وما أعذب الماء من ذلك الأبريق المزيّن بالـ “كروشيه” الأبيض، بعد الاستماع مفصّلاً الى الشرح عن هذا العمل الابداعي في تطويع الصخر وصقله ليصبح تحفاً فنية تخلّد بصمات كبار الشخصيات من الأمير فخر الدين الى شوشو ففريد الأطرش وسعيد عقل وطليع حمدان ووجه ميخائيل نعيمة الذي لا تكتمل ملامحه الّا من نافذة المحترف كونه مؤلّف من مجموعة من الفنون المتناقضة أي ستة أجزاء من المنحوتات، حملت كلّ منها جزء من وجه نعيمة وحاسّة من حواس الانسان، وترمز هذه المنحوتات الى الحياة المتفكّكة أسريّاً واجتماعيّاً.
تحت العريشة وفي ظلّ السنديانة الكبيرة التقطنا الصور وتلذذنا بما قدّمه لنا أهل البيت من فواكه باردة عكس الجوّ يومها قبل أن نشدّ الرحال الى محميّة أرز الشوف، حاملين معنا أمانة من مؤسس نادي الصحافة يوسف الحويّك في الذكرى السنوية الأولى لرحيله، وهي حبّ لبنان والتمسّك به كما يتمسّك الأرز بالأرض. وهل يوجد ما يعبّر أكثر عن وصيتّه من زرع شجرة أرز في أرض محميّة الشوف التي نجحت في وضع نفسها ولبنان على الخريطة العالمية للمحميات الطبيعية؟
غرس رئيس نادي الصحافة بسّام أبو زيد الشجرة في الأرض وأكّد أننا كاعلاميين “سنقوم بكلّ ما بوسعنا للمحافظة على لبنان وعلى أرزه وسنحمل رسالة الحريّة دائماً.” وبعد الجولة بين أشجار آخر امتداد للأرز اللبناني جنوبًا، وهو أرز عين زحلتا والباروك ومعاصر الشوف المنضمة كلها الى المحمية منذ العام 1996، استضافنا أصحاب Cezar’s guesthouse في الباروك الى مأدبة غداء قروي تعرفنا خلالها على المنتوجات الغذائية المعروفة في المنطقة.
واللافت عند مدخل المشروع، كومة من الحطب فوق كتلة حيوية عبارة عن ملخّص قصّة “العمل المستدام في مجال حماية البيئة” وهوإنتاج الحطب الصناعي، بالتعاون مع وزارة الزراعة، بهدف تخفيف خطر حرائق الغابات والحدّ من قطعها للحصول على الحطب كمادة للتدفئة في فصل الشتاء، تمّ تحويل الكتلة الحيوية بعد خلطها مع جفت الزيتون، إلى حطب صناعي مضغوط يغني عن الحطب الطبيعي، إلى ذلك تمّ تجهيز فريق الحماية الذي يتفرّغ أفراده لتسيير الدوريات وقمع المخالفات ومنع التجاوزات.
هي رحلة من نوع آخر أشبعت حواسنا كاملة، وحمّلتنا مسؤولية نقل ما شاهدناه وسمعناه وتذوقناه وشممناه ولمسناه الى كلّ اللبنانيين وكلّ العالم…وبأقلامنا كتبناه: شوف حالك بالشوف!