كتب جورج شاهين في صحيفة “الجمهورية”:
إذا كان مستبعَداً إحياء «تفاهم معراب»، فإنّ ما هو مستغرَب يكمن في طريقة التخلّي عنه. فعلى رغم معرفة طرفيه بما يلحقه ذلك من ضرر بهما، فقد شكّل كشفُ جزء منه، قبل الرد بتعميمه كاملاً، مناسبةً ليتساويا في ارتكاب الجرم نفسه. وهو ما طرح السؤال: إذا كان الخروج عن مثل هذا التفاهم بهذه البساطة فما الذي يحمي التفاهمات المشابهة؟ ومَن هو الآتي؟
لا يُكشَف سرّ إذا ما قيل إنّ وصول العماد ميشال عون الى رئاسة الجمهورية لم يكن مجردَ عملية انتخابية ديموقراطية مورست خلالها الطقوسُ الدستورية وطُبقت فيها الأنظمةُ المعمول بها فحسب. بل إنه شكّل انقلاباً في موازين القوى بما حمله من خروج البعض المؤيّد له على كثير من المسلمات والثوابت التي حكمت الساحة اللبنانية قبل دخول البلاد مرحلة «الشغور الرئاسي» وفيها. فمسلسل التفاهمات التي عقدت في السرّ والعلن قبل دخول الشغور شهره التاسع والعشرين بقليل اعادت خلط الأوراق وقلبت الموازين في بلد كان قادته ومواطنوه منقسمين في وضوح بين محورَي 8 و14 آذار في معادلة سلبية تحكّمت بالحراك السياسي على مدى اكثر من احد عشر عاماً.
على وقع ما رافق 45 جلسة انتخابية التي استمرّت الدعوات اليها متلاحقة لإنتخاب رئيس الجمهورية ما بين الجلسة الأولى التي عقدت في 23 نيسان العام 2014 وحتى الجلسة التي انتخب فيها العماد عون رئيساً في 31 تشرين الأول 2016، تبادل اللبنانيون شتى انواع الإتّهامات وتبارى الخبراء بعشرات الإجتهادات والتفسيرات الدستورية ولم يُنتخب رئيس الجمهورية الجديد. وفي اقلّ من عشرين يوماً سبقت جلسة انتخاب الرئيس ترجمت سلسلة من الصفقات والتفاهمات التي عقدت في السرّ والعلن. وعلى رغم عناد قلائل فقد انتُخب عون رئيساً للجمهورية بـ 83 صوتاً ولم ينجح المعاندون سوى بجعل المجلس النيابي يخوض اربع جولات انتخابية متتالية في أقلّ من ساعتين.
وإذا ما عاد المراقبون الى تلك المرحلة للتدقيق في كل ما رافقها من تشنّجات ليس من أجل تأريخها، فهي حاضرة في اذهان وعقول مَن رافقوا تلك المرحلة بتفاصيلها المملّة. بل للإشارة الى أهمية تلك التفاهمات التي عُقدت في السرّ والعلن والتي قلبت الموازين وأوصلت العماد عون الى قصر بعبدا. ولم يقتصر الأمر على تفاهم «القوات اللبنانية» و»التيار الوطني الحر» الذي أُعلن عنه بالصيغة النهائية في 18 كانون الثاني من ذلك العام، فقد شهدت باريس والرياض وعواصم اخرى سلسلة من التفاهمات الأخرى ما بين «التيار الوطني الحر» واكثر من طرف سياسي وحزبي والتي شكّلت الحلقة الأخيرة من المسلسل «المكسيكي الطويل» الذي بدأ بتفاهم «مار مخايل» ما بين التيار و»حزب الله» الذي أُعلن عنه في 6 شباط 2006.
وعليه، ولما وضع «تفاهم معراب» على لائحة التفاهمات المنهارة نتيجة سلسلة المواقف الأخيرة الصادرة عن طرفيه، وضعت على المشرحة بقية التفاهمات التي عقدت قبله ومن بعده، وخصوصاً تلك التي قادت الى الإستحقاق عينه. ولما تعمّق المراقبون في الأسباب التي أدّت الى انهيار الأول منها دراماتيكياً وقياساً على حجم الصدمة التي خلفها نشر اجزاء منه قبل تعميمه كاملاً كوثيقة سرّية طرحت سلسلة من علامات الاستفهام والسيناريوهات التي تهدّد التفاهمات الشبيهة، ليس على خلفيات أحداث داخلية فحسب بمقدار ما سيتصل الأمر بالأحداث المرتقبة في سوريا بعد ايام وربما اسابيع قليلة.
وبناءً على ما سيُبنى على هذه التساؤلات من أجوبة وتوقعات، تبقى المخاوف مشروعة عندما يتصل الأمر بحجم التحضيرات الجارية لقيام بعض الوزراء والقيادات الحزبية بزيارات الى سوريا للبحث في ملفات عدة أبرزها ما يتصل بإعادة النازحين السوريين، وإعادة حركة الترانزيت بين لبنان والدول الخليجية والعراق عبر سوريا وهو ما قد يهدّد المساعي الجارية لتأليف الحكومة العتيدة.
بالتأكيد، واستناداً الى ما يقول به طرفاه، فقد دُفن «تفاهم معراب» بكل ما يتصل بتقاسم الحصص والمواقع بينهما. وفي الوقت الذي لم يعد هناك سرّ في شأن «تفاهم كليمنصو» الذي وُلد ميتاً بفعل العلاقات المتوترة بين جنبلاط والعهد منذ فترة غير قصيرة. لكن ما هو أخطر أن تؤدّي العقبات التي تحول دون استئناف رئيس الحكومة مساعيه لتأليف الحكومة وتنامي الخلاف بينه وبين رئيس الجمهورية وباسيل الى وصول النيران الى أوراق «تفاهم بيت الوسط».
وستزيد المخاطر حتماً إذا ما تمادى البعض في التعاطي مع الأزمة السورية من خارج ثوابت الحكومة وسياسة «النأي بالنفس». والأمر قد يكون مطروحاً إذا ما كانت مواقف رئيس «التيار الوطني الحر» جدّيةً في شأن تنبُّئه بفتح «الأوتوسترادات» بين لبنان وسوريا، إلّا في حال كانت من مفاعيل الإحتفال بـ «يوم العرق اللبناني» وحسب؟!