Site icon IMLebanon

جميل السيّد “فقيه” الشيعتين

كتب بول شاوول في “المستقبل”:

أن تقول «إنه زمن المفارقات» فقد يكون ذلك من باب المفارقات!

وأن تقول إنه زمن زوال البديهيات حتى تفاصيلها، فقد يكون ذلك أيضاً من باب البديهيات.. أن تصف الواقع السياسي في بلادنا اليوم بالانحطاط، فلن يكون ذلك سوى مفارقة أو بداهة..

أن يصبح الانتماء إلى الدولة مثلاً لعنة أو خطيئة.. أو خيانة وأن تصبح الميليشيات هي البديل والمحطّ والبوصلة فهي المباركة، وهي الميليشيات – الدولة. أن يكون «الكانتون» هو الدولة المنشودة والمقياس الدقيق للعلاقة بين المواطن والمواطن، بين الشعب والسلطة، في أيدٍ هي من شتات الارتهان، والعنف، ومن كيميائيات مختبرات الأجهزة الخارجية. فهذا من سَبق الزمان ومن حِكَمِه. هذا ما سبق أن ألفناه على امتداد زمن حلّت فيه الميليشيات محل الدولة، واختلطت سلطة هؤلاء في مجمّعات مذهبية بمسمّيات من جوهر السياسة والسيادة «كإدارت مدنية»، أو كانتونات كاملة الأوصاف والصلاحيات في قوانينها ومحاكمها وجرائمها وعمالتها.

لماذا أعود إلى ما سبق أن «تناولته على امتداد نصف قرن مع آخرين» فلأنني اكتشفت الأمور تتكرّر بأكثر تراجيدية.. وكوميدية، وسخرية.

من هذه المفارقات «اللازمنية»، أن ينبري «رجل الأمن القوي» الذي صار نائباً بأصوات الميليشيات وهو مدير مؤسسة الأمن العام السابق، المفترض أنها ركن من أركان الدولة، وهو جميل السيّد وهو ينطق بكلام، ليس من منظوق ولا منطق «رجل دولة» ولا حتى رجل دويلة، ولا من منظور مسؤول أمني، بل من منظور من شَعَرَ وما زال أنه خارج هذه المسؤوليات البائدة بمعادلات هيولية ولوناتيكية.

فها هو جميل السيّد و«بمنطق» مُتّسق يقارب من باب المفاضلة (لا المقارنة فحسب) وضع الشيعة في لبنان: ما من شيعة واحدة. بل إثنتنان: (ومن قال لك إنه ليس من شيعة ثالثة ورابعة خارج تصنيفاتك؟):

الأولى شيعة الدولة. برئاسة برّي، وشيعة المقاومة برئاسة سماحة السيد حسن نصرالله. وهكذا جعل من شيعة لبنان مجرّد قطعان موشومين سلفاً وكأن ليس لهم أن يقولوا بأنفسهم انتماءاتهم. فهناك مَن يتطوّع، ويحل محلّهم.. فلو نطق «هذه الحقائق» التاريخية «غير المسبوقة»، محلّل فلسفي أو أنتروبولوجي، أو شاعر، لقلنا إنها من باب الافتراضات. ولقلنا إنها قيلت من باب الخيال العلمي. لكن أن يقسّم «رجل سوريا القوي» في الدولة اللبنانية، وينحاز إلى أحد الطرفَين الموصوفَين، بشهايا عالية. دمغ الشيعتين: المنحورتين بعقلية أيديولوجية (مذهبية – جغرافية) ليدين «شيعة الدولة»، (ذات الانتماء إلى الدولة وبلدها) ويصفق بيدين «سحريّتين» لشيعة المقاومة التي «تؤمن إيماناً عميقاً مطلقاً بولاية الفقيه الإيراني»، وبأنها «فوق الدولة»، والكيان، وإرادة الشعب، نافية الحدود والسيادة، والاستقلال، حاضنة حقيقة أن تحرير «الجنوب من احتلال صهيوني واحد، وتسليمه إلى احتلالين: سوري وإيراني».

شيعة المقاومة

والواقع أن «شيعة – المقاومة» كما قال السيّد «قاموا بواجبهم» كاملاً ضد العدو جنوباً وضد الإرهاب بقاعاً (لا يذكر السيّد شيئاً عن دور جيش الدولة!): بل تجاوزوا هذه الانتصارات السهلة، المألوفة، إلى محاولة تحرير الشعب السوري من سوريا، واليمني من اليمن، والعراقي من العراق. بمقاومة كانت موجّهة إلى إسرائيل أمس فصارت موجّهة إلى صدور اللبنانيين (7 أيار، انقلاب القمصان السوداء، محاولة إحراق تلفزيون «الجديد»، وتهديد «تلفزيون L.B.C»)، من دون أن ننسى إحراق تلفزيون “المستقبل” وجريدة “المستقبل”، ومن دون أن ننسى، اتهامها بمقتل الشهيد رفيق الحريري. رائع! إنها لمقاومة بلا حدود وبلا جغرافيا، ولا تاريخ..

إذاً، وبحسب منظور جميل السيّد، أنه كان على «شيعة» برّي أن يلتحقوا بمقاومة السيّد حسن ونعيم قاسم… وسليماني، وولايتي، ومن قبل أحمدي نجاد! إنها لرحلة فضائية بآلات زمنية مرتدة ومذبذبة بين الماضي والحاضر. ولكن مدير الأمن العام السابق «رجل سوريا القوي في لبنان» (أي مفارقة رائعة) نسي أن حزب الله طلع من تمهيدات «حركة أمل»، ومن حضور وفاعلية الإمام الكبير موسى الصدر (لماذا أُغلق ملف خطف السيّد موسى الصدر خلال عهد الوصاية في لبنان؟)، ومن الاعتصامات البقاعية احتجاجاً على الحرب. وأن «نهوض الشيعة» ورثها السيد حسن عن حركة «أمل».. بمسؤوليها الأوائل وصولاً إلى الرئيس برّي. لكن انحرف الحزب عن حقيقتين: أن «حركة أمل» بقيت حركة لبنانية (برغم كل الالتباسات)، وعربية (لا فارسية، ولا إسرائيلية ولا افرنجية)! وأذكّر السيد جميل السيد أن برّي صرّح مراراً بأنه «عربي»، و«قومي عربي»… ونحن نعرف أنه أثناء انتمائه هذا كان من المناضلين في الحركة الطالبية التي سبقت الثورة الطالبية في السبعينات!

أترى التهمة أيضاً تطاول عروبة أمل؟ أو لبنانيتها؟ وهل يعني السيد أن الانتماء إلى الدولة «خطيئة» كالانتماء إلى لبنان والعرب؟. إذن ماذا.. وكان برّي حليفاً للنظام السوري، عندما كانت سوريا بالنسبة إليه «قلب العروبة النابض»، وليست أرداف إيران ولا بطون روسيا ولا أذرع الأفغان المرتزقة.

الجغرافيا

لكن لم يكتفِ مدير الأمن العام، اللبناني بهذا التقسيم المبسّط، والمغلوط، لشيعة لبنان، بل رسم لهما جغرافيا (هل أنت إيديولوجي جغرافي يا جميل السيد؟!) فشيعة برّي «جنوبيون»: وهم شيعة الدولة! وقد منحت «شيعية الدولة» الجنوب كثيراً لكن على حساب البقاع (الذي دمغه أيضاً، بالمذهبية بعد الجنوب)، الذي لم «يعط ما يستحقه».

لغة الامتيازات

وكأن السيد يعود بنا إلى بعض الشعارات المستهكلة التي أطلقت في بداية الحروب عام 1975: دولة الامتيازات، ومعارضة «حقوق الطائفة»، و«جيش الامتيازات» و«جيش المقاومة» (الفلسطينية)، وكان ذلك من نذائر الحرب، ومن جغرافياتها، لأنه «مسّ» بكيان الدولة، وأبعد من ذلك، أدى إلى ما أدى من تدمير كل شيء.. بأيدي ميليشيات الامتيازات ونقيضها!

لكن هذا التحليل التبسيطي للسيّد كأنه يصبّ في النهاية في غير مصلحة «حزب الله»، الذي كرّس جميل السيدّ انفصاله عن الدولة، ككيانين مغلقين ومستقلين على بعضهما: مقاومة نقيض الدولة، ويعني أيضاً مقاومة ضد الجمهورية، بل أكثر، وأن مقاومة الحزب «ظِلمتها دولة شيعة برّي». وقد نسي أن المقاومة انطلقت من الجنوب قبل الحزب في إيران: مع المقاومتَين الفلسطينية والوطنية. بل كان الجنوب أصلاً من المقاومات.. ونضيف أن أشكال المقاومة ضد إسرائيل لم تنحصر يا مدير الأمن العام اللبناني في السابق بالجنوب بل امتدت إلى البقاع وبيروت..

«منطق الامتيازات»

فمنطق الامتيازات الطائفية وغير الطائفية حصره جميل السيد بالشيعتين: تماماً كما حصرت الميليشيات المسيحية «مقاومتها» بحزبَين لتبدأ حروب الإلغاء! وكأنّه يفصل شيعة الجنوب عن لبنان (ويصلهم بالدولة كجهاز منفصل بدوره عن إلزامات البلد)، وكذلك «شيعة البقاع»! يقطع شيعة أهل جبل عامل، منجم العلماء والفقهاء، والشعراء والكتّاب والمفكرين والوطنيين كما يقطع قالب الحلوى. قطعة الجبنة. بمعنى أنه يسيّء للشيعة: مجرد أدوات في ايدي إرادات حزبية داخلية وخارجية. بل مجرد كانتونات بقاعية وجنوبية، قاطعاً صلاتهم بانتماءاتهم، إلى بلدهم، عبر اختزال البلد بالدولة التي غادرها بعدما كان من أركانها!

أما عن استعارته صفة «المحرومين» التي انطلقت أيام الإمام العلاّمة الكبير موسى الصدر، وإلصاقها بمنطقة أخرى (يعتبرها شيعية)، فيدلّ على جهل بحقائق الأمور، أو غربة عن معايشة الوقائع. فالجنوب أكثر المناطق اللبنانية التي تعرّض للحروب وأشكال العدوان الإسرائيلي، واحتلال المقاومة الفلسطينية عبر «اتفاق القاهرة» جزءاً من أرضه تحت مسمى «أرض فتح»، فاصلة الجنوب عن الدولة وبمنطق تجاوز سيادة البلد. والجنوب أكثر المناطق التي تعرّضت للتهجير: عند الغزوات الإسرائيلية، المتعددة، 1982، و2006 في عهدة حزب إيران.

والجنوب أكثر المناطق اللبنانية التي تعرّضت مدنها وقراها للوصاية سواء في حروب إلغائية فرضها الحزب على «أمل»، أو بسبب العدوان الإسرائيلي، أو حتى بسبب حروب المخيمات. والجنوب من أكثر المناطق اللبنانية التي هبّ العالم وخصوصاً العربي وبالأخص الدول الخليجية، لإعادة إعمارها حتى في ظل «سيادة» حزب إيران عليها، والتحكم بمصائرها.

إذاً، وإن كان الجنوب أحياناً كثيرة يصدّ بصدور أبنائه اللبنانيين وحده كل تطاول مسلّح على لبنان. ولهذا فالمساعادات الإعمارية التي عرفها، كان جزء منها يعود إلى «إعمارها»، وجزء كبير يعود إلى تناسق بين «شيعة» برّي والدولة، لتحسين ظروفها، (ولا ننسى جهود الرئيس الشهيد رفيق الحريري) وكما لا ننسى جهود بعض البلديات والنواب كما حصل في صيدا وصور..

البقاع

أما البقاع، فكان بقعة من بقع الحزب: ميادين لتدريب مسلّحين لتصديرهم إلى الخارج، حوّلها إلى مشاعٍ فصلَها عن الدولة، وحكمها، وحاول تدمير عاداتها وتاريخها وتقاليدها (اللبنانية)، مما جعل العرب والأجانب واللبنانيين يخشون التوجّه حتى إلى بعلبك. بل إن جزءاً من أهل بعلبك هجر المنطقة هرباً من تسلّط الحزب، وعسكرة الأرض والسهول، وأدلجة المجتمع بالقوّة ومصادرة حتى القلعة، وفرض الممنوعات والمحرّمات على أهلها! صار البقاع وحيداً لأن الحزب أراده أن يكون كذلك ليستفرده. بمعنى آخر قطع الحزب علاقة البقاعيين بالدولة، ليكون هو همزة الوصل.. لكن المقطوعة.

فما علاقة الدولة ككل «وشيعتها» والأحزاب بعزلة البقاع، وعدم تحسين ظروفه، ووضعه الإنمائي.

فأي سائح يمكن أن يأتي إلى بعلبك وحزب الله المتّهم بالإرهاب يحكمه؟ وأيّ عربيّ يمكن أن يزور مدينة الشمس وقد حجبها الحزب عن العالم؟ ومن ناحية أخرى أسأل السيد جميل السيّد: أولم يكن (وزراء الحزب ونوابه نحو 10 نواب للحزب وواحد لبرّي) وبلدياته التابعين أو المقرّبين من الحزب: فأين كانوا؟. فلا هم أرادوا إعمار الجنوب (بل إبقاؤه على حاله)، ولا هم سمحوا بتحسين ظروف البقاع الذي تحوّل في عهدتهم إلى مشاع للسرقة والقتل وتهريب المخدرات والسيارات والممنوعات. فالبقاع، على صورته اليوم، كان من حصة «الحزب»، لا من حصة أي فريق لبناني؟!

فلماذا لا يسائل جميل السيّد وزراء الحزب: ماذا فعلتم، على امتداد 30 عاماً، للبقاع؟ ألم تكونوا فريقاً قوياً في الحكومات المتتالية وتبوّأتم «عرش وزارات خدماتية كالكهرباء..؟

المبضع

لكن كان جميع السيد استخدم «مبضعاً» لقصّ أواصر الشيعة، وكذلك أواصر الشيعة بالدولة وبالمكوّنات الكبرى. ونظرة السيّد ليست انعزالية وتقسيمية على المستوى الشيعي فحسب، بل على مستوى الوطن، كأنه ينظّر لكانتونات داخل الكانتون.. بل ينظر لتحريض مَن تبقّى من الشيعة اللبنانيين ضد الدولة!

أوجدت الانعزاليات الماضية شروخاً في الجسد اللبناني، والانعزالية الحديثة، تحاول أن ترميه في أحضان أكبر دولتين فاشيتين هما نظام الأسد وولاية الفقيه.

كلمة أخيرة: أما وقد انتخبك أهل البقاع بإرادة سخيّة نائباً، فتفضّل يا أخي جميل، وَضَعْ مخطّطات بالتنسيق مع الحزب وأعوانه، لتحسين ظروف البقاع!

كُن «المنقذ» يا جميل السيّد يا فتى البقاع الأغرّ: شمّر عن ساعديك وابدأ بالإعمار، وعطّل كل القنابل الموقوتة.