كتبت ميسم رزق في “الاخبار”:
بمجرّد وصوله إلى السعودية ورؤية الاستقبال الذي أُعدّ له، فتحت زيارة وزير الداخلية نهاد المشنوق أبواب التأويلات والاستنتاجات. رسائِل سعودية في اتجاهات عدة، وواحدة منها للمشنوق نفسه.
لم تكُن زيارة وزير الداخلية نهاد المشنوق إلى السعودية تحتاج إلى أكثر من حصولها، وبدعوة رسمية، كي يُبنى عليه ما يريد أن يبنيه من يتمنى حصولها أو من لا يتمنى. حمَلت الزيارة منذ اللحظة الأولى ــــ في الشكل أكثر من المضمون ــــ دلالات عدة. ولو أن تداعياتها لن تظهر الآن، إنما متروكة للحظة أو الفرصة «المؤاتية».
هي حتماً رسائِل سعودية في اتجاهات عدة، واحدة منها للمشنوق نفسه. محادثات، على مدى ثلاثة أيام، مع مسؤولين سعوديين وأداء مناسك العمرة ولقاء ثلاثة أضلع أمنية على صلة وثيقة بولي العهد محمد بن سلمان. فالإبقاء على الدعوة التي وُجّهت إلى الوزير اللبناني منذ ما قبل الانتخابات النيابية، وإذا وضعت في السياق التي أتت به، فلا بدّ وأن تحيلنا إلى استنتاجات متعدّدة. أصلاً لا مكان هنا إلا للاستنتاجات، لا سيما أن مضمون الأحاديث التي دارت بقي سراً، باستثناء بعض التصريحات التقليدية المرافقة لأي اجتماع رسمي.
هذه الاستنتاجات تبدأ من طريقة استقبال الجانب السعودي للمشنوق، وصولاً إلى الاجتماعات التي عقدها وما رافقها، خصوصاً من حفاوة متعمدة. على سبيل المثال لا الحصر، يُقال إن الموكب الذي حظي به المشنوق طيلة أيام الزيارة رافقته سيارة إسعاف، وعدد من السيارات المبالغ فيها. حطّ المشنوق في مطار جدّة. استقبله نائب وزير الداخلية السعودي ناصر الداوود برفقة كبار الضباط والمسؤولين في وزارة الداخلية ثم مأدبة غداء حضرها الوفد اللبناني وجميع من شاركوا في الاستقبال. صورة يُمكن أن تستفزّ كثراً. تبعها اجتماع مع رئيس الاستخبارات السعودي الفريق أوّل خالد حميدان، واجتماع مطول مع رئيس جهاز أمن الدولة السعودي عبد العزيز الهويريني (يحظى برتبة وزير)، الذي أقام مأدبة عشاء على شرف المشنوق. إشادة من الأخير بمواقف وزير داخلية لبنان، وتأكيد على الإعجاب بخطابه الشهير في مجلس وزراء الداخلية العرب في تونس. بعدها لقاء مع وزير الداخلية الأمير عبد العزيز بن سعود بن نايف، تخللته محادثات توزعت بين الأمن والسياسة، من سوريا إلى العراق واليمن، وصولاً إلى التفاصيل اللبنانية.
بعيداً من الشكل، لا تُمكن قراءة زيارة المشنوق إلى المملكة خارج السياق المتمثل بالآتي:
أولاً: الاشتباك مع رئيس الحكومة سعد الحريري، وتقصّد الأخير اعتماد مبدأ فصل النيابة عن الوزارة لاستبعاد وزير الداخلية عن الحكومة الجديدة.
ثانياً: إعلان المشنوق أنه طُعنَ في الانتخابات النيابية الأخيرة من ماكينة تيار المُستقبل. قال ذلك في مقابلة قبل أسبوع من سفره. وقد لمّح إنّه قاب قوسين أو أدنى من الخروج من كتلة المستقبل، إن لم يكن قد خرج فعلاً.
ثالثاً: تقصّد المشنوق زيارة دار الفتوى في بيروت قبل أن يحطّ في جدة. هو المكان نفسه الذي أعلن من على منبره أن «اللبنانيين ليسوا قطيع غنم، ولا تحكمهم المبايعات». أطل من الدارة ذاتها مجدداً للقول أنه نائب (شبه) مستقل، يمثل بيروت والدولة اللبنانية والخطّ الحليف للمملكة العربية السعودية. وناشد «ضمير العروبة الملك سلمان بأن لا يترك مؤسسات المقاصد وحيدة لأنها هي التي حمت الاعتدال السني في لبنان»، وهي الكلمات التي نالت تقدير مفتي الجمهورية عبد اللطيف دريان.
كان يُمكن للرياض أن تلغي الدعوة (القديمة) في اللحظات الأخيرة. لكنها عوضاً عن ذلك، أبقت عليها وأعطتها طابعاً استثنائياً. شاب هذه الزيارة كلام كثير عن تلازم الخطوة السعودية مع موقف سلبي غير مُعلن من أداء الرئيس سعد الحريري. من يعرف المملكة حق المعرفة يؤكّد أنها تترك رئيس الحكومة على هواه، يفعل ما يحلو له أو يعتبره صحيحاً، وكأنه «تحت التجربة» إلى أن تقرّر هي التجاوب معه ودعمه أو … التخلي عنه. لكن هذا الانتظار والترقب للخطوات التي يقوم بها رئيس تيار المستقبل ليس يتيماً. في المقابل، تعمد المملكة إلى إرسال إشارات مفادها بأن السقف الزمني للاختبار ليس مفتوحاً… وربما هناك خيارات أخرى. قد تكون زيارة المشنوق ــــ بكلّ ما تعنيه ــــ الأكثر تعبيراً عن هذا الاستنتاج. وإن كان ليسَ من الضرورة أن يكون هو الخيار الآخر الوحيد، لكنه واحد من الخيارات!
الثابت الوحيد في هذه الزيارة حتى الآن، هو أن «هناك هجمة سعودية إيجابية على لبنان» بحسب المطلعين على موقف المملكة. فالرياض «استدركت بأن ترك الساحات أمام المحور الآخر (إيران) ليس مجدياً». وبناء عليه «يستعجِل السعوديون تشكيل الحكومة للعودة إلى المشهد اللبناني من أبواب عدة، سياسية واقتصادية وسياحية حتّى». إذ «لا يُمكن أن تعود حركة المسؤولين السعوديين إلى بيروت، ويترك الباب موصداً أمام المواطنين السعوديين الراغبين في زيارة هذا البلد».