تَكشَّفتْ في الساعات الماضية في بيروت الأبعاد الفعلية لأزمةِ تشكيل الحكومة الجديدة التي تتشابَك فيها تعقيدات التأليف “الرقمية” ذات الصلة بالأحجام والتوازنات مع تعقيدات “الوظيفة السياسية” لهذه الحكومة وتموْضعها الإقليمي انطلاقاً من عناوين إشكالية أبرزها التطبيع مع النظام السوري الذي قفز الى الواجهة من بوابة ملف عودة النازحين.
وفيما انكفأ الشقّ “الحِسابي” من مأزق التأليف لمصلحة طغيان الجانب الاستراتيجي لهذا الاستحقاق وارتسامت ملامح صراع مبكّر على “دفتر مهمات” الحكومة الجديدة في التعاطي مع أزمات المنطقة، تبدي أوساط مطلعة الخشية من أن يكون “انفجار” عنوان عودة التواصل الرسمي بين لبنان والنظام السوري مؤشراً لِما هو أبعد من مجرّد تعميق الأزمة الحكومية وصولاً إلى المساس بمرتكزات التسوية السياسية التي حكمتْ الواقع اللبناني منذ إنهاء الفراغ الرئاسي، على قاعدة تفاهمات شكّل حجر الزاوية فيها النأي بالنفس عن صراعات المنطقة ولا سيما عن الوضع السوري والموقف منه.
وتشير الأوساط الى أن الاندفاعة المتدحْرجة من فريق رئيس الجمهورية العماد ميشال عون و”حزب الله” وحلفائه على خط معاودة التطبيع السياسي مع نظام الرئيس بشار الأسد من خارج مسار عربي ودولي، تشي بأنها من ضمن محاولة لترجمة نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة وما حملتْه من “انقلابٍ ناعم” للأكثرية على مستوى التوازنات داخل الحكومة كما على صعيد خياراتها الإقليمية، وهو ما يبرّر السؤال حول اذا كانت هذه المعركة المزدوجة تعكس قراراً بالارتداد على التسوية السياسية وتفاهماتها، وذلك بما يضع كل الملف الحكومي في مهبّ الريح ويرسي قواعد جديدة للصراع على أنقاض تلك التسوية التي يريد الحريري ان تكون حكومته الجديدة بمعاييرها.
وإذ استوقف الأوساط نفسها إطلاق حملة مباغتة بعنوان “الحملة الوطنيّة لإلغاء المحكمة الخاصة بلبنان” التي تتولى النظر في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري التي يُحاكم فيها غيابياً 4 من “حزب الله” بوصْفها إشارة بالغة الدلالات في مسار الإطاحة بأسس التسوية السياسية، برز “السجال الضمني” بين عون والحريري على خلفية ملف النازحين بعد مسارعة الرئيس المكلف الى التقاط فرصة التفاهم الروسي – الأميركي على عودة النازحين لجعل موسكو قناة رجوع اللاجئين من لبنان والوسيط الضامن مع الجانب السوري، محبطاً بذلك مساعي فريق “8 آذار” لجرّ بيروت إلى تنسيق مباشر مع نظام الأسد قبل تبلور تسوية دولية متكاملة للأزمة السورية.
وكان بارزاً أمس استقبال الحريري في أول نشاطٍ رسمي له بعد عودته الى بيروت القائم بأعمال السفارة الروسية فيتشيسلاف ماسودوف حيث جرى بحث المقترح الروسي بشأن عودة النازحين السوريين من لبنان الى بلادهم. وقد أبلغ ماسودوف الرئيس المكلف بوصول ممثل خاص للرئيس الروسي ونائب وزير الخارجية وممثّل عن وزارة الدفاع قبل نهاية الاسبوع الحالي الى بيروت لمناقشة واستكمال البحث في الموضوع الذي كان سبق للرئيس المكلف ان أوفد مستشاره للشؤون الروسية جورج شعبان الى موسكو لمناقشته لتبرز بعدها معلوماتٌ عن لجنة تنسيق مشتركة سيتم إنشاؤها قريباً للإشراف على عودة النازحين.
وفيما كانت وزارة الدفاع الروسية تعلن أن “سفير روسيا في بيروت الكسندر زاسبيكين سيترأس مركز إعادة اللاجئين السوريين من لبنان إلى ديارهم”، خرج الحريري في بيانٍ لافت حمل رسائل في أكثر من اتجاه، اذ أعلن انه “يتابع المقترحات التي أعلنت عنها وزارة الدفاع الروسية وتجري مناقشتها مع الادارة الاميركية في ضوء النتائج التي أسفرت عنها قمة هلسنكي”.
واذ أعلن انه سبق ان ناقش خلال الزيارتين الرسميتين لموسكو في سبتمبر ويونيو الماضيين تداعيات الأزمة السورية على لبنان وانه اكد في لقاءاته مع الرئيس فلاديمير بوتين على “وجوب ان يشمل الحل السياسي للمسألة السورية تنظيم عودة النازحين من لبنان”، شدد على “أن دوره في ملف عودة النازحين توجبه مسؤولياته القومية والوطنية والحكومية، وهو يرفض رفضاً مطلقاً إدراج هذا الدور في خانة بعض المزايدات والسباق السياسي المحلي على مكاسب إعلامية وشعبوية لا طائل منها”، لافتاً الى انه “لا يخوض في هذا المجال السباق مع أحد…”، وداعياً للابتعاد عن إغراق هذا الملف “في متاهة التجاذبات الداخلية”، ومؤكداً “أهمية المهمات التي يضطلع بها الأمن العام اللبناني، بالنسبة لتسهيل عودة النازحين، ويتطلع لأن تتكامل هذه المهمات مع الضمانات الدولية”.
وجاء بيان الحريري بعد ملامح الامتعاض التي نقلتْها تقارير صحافية عن مصادر قصر بعبدا من تجاوز الحريري رئاسة الجمهورية في مسألة التنسيق مع روسيا في ملف النازحين، معربة عن عدم استساغة فكرة تأليف لجنة التنسيق التي جرى الحديث عنها بعد زيارة شعبان لموسكو “لأن مثل هذا الموضوع لا يتقرّر على مستوى مستشارين او معاونين”، وان أي خطوة ستقرر لجهة فريق العمل وطبيعة مهمته سيبحثها رئيس الجمهورية مع رئيس الحكومة بعد عودته “بحيث تحدد طبيعة اللجنة (عسكرية أو ديبلوماسية أو سياسية)، ناهيك عن دور وزارة الخارجية بتفعيل القناة الديبلوماسية المتمثلة بالسفير اللبناني لدى دمشق”.
وفيما نقلت المصادر عن عون أنه ”لن يمرَّ شيء دون عِلمنا أو عبرنا”، ذكّرت بأن التنسيق مع الجانب السوري في ملف النازحين “غايته أولاً إعادة النازحين، وأمام هذه القضية لا يجوز إثارة مسائل جانبية لن تعطي نتيجة، ما دام تواصل لبنان مع النظام السوري قائماً عبر التبادل الديبلوماسي. كما أن اللواء عباس إبرهيم ينسّق ترتيبات العودة مع الجانب السوري… ولا يمكننا النأي بالنفس في موضوع يتهدّد اقتصادنا وأمننا واستقرارنا”.
وفي حين كان رئيس البرلمان نبيه بري يؤكد أن مسألة التنسيق مع سوريا باتت أمراً ملحّاً في كل المجالات، وعلى رأسها مسألة النازحين، معتبراً أن الحديث عن عدم التنسيق مع سورية “مسخرة يجب أن تنتهي”، وكاشفاً ان وزير “حزب الله” حسين الحاج حسن سيزور دمشق لتنسيق أمور تخصّ وزارته، لاقاه نائب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم معلناً “أن الاقتصاد اللبناني لن يتمكن من الاستفادة من الاقتصاد السوري إلا عبر الاتفاق بين الحكومتين”.
وفي موازاة ذلك، انشغلت بيروت بدخول مجلس الأمن الدولي على خط الدعوة إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية في لبنان على وجه السرعة، في ظل اتهام الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في التقرير الذي أعدّه حول القرار 1701 (ناقشَه المجلس في جلسة مغلقة الاثنين) “حزب الله” بـ“تقويض” قدرة الحكومة على ممارسة سيادتها وسلطتها.