IMLebanon

عمّال البحر… أسلوبٌ كلاسيكي مُتخم بالتصوير الميلودرامي

كتبت نسرين بلوط في صحيفة “الجمهورية”:

قد يظنّ البعض بأنّ فيكتور هوغو هو كاتب فرنسي تقليدي، عاصَر الحركة الكلاسيكية القديمة التي توازن إيقاعها على نغمٍ موحّد بين الكتاب، وهو التصوير المجازي والتحاوري والتكراري الذي اشتهر به الأدب في عصره، ولكننا نعلم في المقابل بأنّه كاتبٌ عصري تجاوز زمنه الضوئي بفكره الأدبي، وتجرّع من كؤوس الحنكة والخبرة التي أبرزها في روايته «البؤساء» التي أحدثت فارقاً هائلاً بين كتابات الأدباء في أيامه، وجرأته الكبيرة والمدهشة في الإيجاز والانجاز حينها.

تأتي روايته «عمّال البحر» لتشهد على رمزٍ لرفوفٍ مكدّسة بكل الكتب الرتيبة القديمة التي لم تشهد الحداثة، وتحتوي على مواقف تحليليّة مملّة، فيغرق القارئ في دوّامة الروتين الأدبي باستثناء بعض المواقف الجميلة فيها.

وحيد في الحياة
تروي القصة حكاية شاب غرناسي إسمه جليات خلق وحيداً في الحياة ويتهكّم عليه من حوله، لعزلته وغرابته، ولكنه يحب فتاة تدعى داروشات وهي ابنة أخ بحّار حديث النعمة، أصبح ميسوراً بعد فاقة، يُدعى لايتاري.

تعلن داروشات في وقتٍ لاحق بأنها ستتزوج بمَن يقوم بإنقاذ مركب عمها الذي علق أو تمّ حشره من قبل سارق شرير ويعمل بحّاراً لديه إسمه السيد كلوبان، بين صخور شاهقة ضخمة وأمواجٍ متلاطمة حانقة. فيختار جليات أن يذهب ويغامر في إنجاز الأمر، حتى وإن كلّفه الأمر حياته. ولكنه لا يصل إلى هدفه في الحصول على حبيبته لأنّ النهاية كانت في صالح غيره.

فيكتور هوغو الشاهد الجميل والمساهم الأكثر شعبية في عملية التنوير التي حدثت في فرنسا قديماً، يبدو مُنهكاً ساخطاً على دور البشر الذي يضمحلّ بانتفاء الحاجة، ويبني روايته على أسس كلاسيكية متينة ومثالية، فالبطل هو رمزٌ للعطاء يمنح بلا حدود، وعنوان جوهري للهوى الذي يكنّه لامرأة لا تلبّي له احتياجاته الجسدية الطبيعية ولكنها تسدّ جوعه النفسي للحنان.

عنوان غير لائق
المرجعية الفنية والموضوعية تفتقد للكثير من الحواس والتفنّن في رواية هوغو، التي تحمل عنواناً لا يليق بمحتواها، فالبحر رمزٌ للإغراق والسيطرة والبلورة، ولكنّ الإبحار فيه هو نوعٌ من المجازفة التي قد تلتقي من خلالها بالأشرار.

ولا يضغط المنجز الأدبي الكلاسيكي هنا على المنجز الروائي، إذ لم يضف إليه الّا البسيط، ولم يسبح في ملكوت الفكر العميق الذي عوّدنا عليه هوجو سواء في رواياته أم أشعاره. فهو ناقدٌ اجتماعي سياسي دراماتيكي لكثرة ما مرّت به من أهوال من يوم وفاة ابنته، إلى اللحظة الأخيرة من حياته، ولكنه ظلّ ينفي ويؤكد ويجلّس الحقائق.

رواية عمّال البحر ذات مغزى إنساني، ولكنها تفادت الهيكل البنائي النفسي لصالح التهويمات الذاتية التي كثيراً ما تضجّ في صدر الكاتب وتتّخذ عنواناً لها في التاريخ.

تقلّبات موسمية
لقد مرّت الرواية في تقلّبات موسمية كبيرة، ولم تتخذ من الحبكة رغم قوتها مَرسى لها، فتهاوت في دركٍ عميق من الاستفاضة والتصوير الميلودرامي الكثيف الحاجب للرؤيا، فتسلّل الملل إلينا جافّاً قاحلاً وتكرّرت الشخصيات برؤاها ودناها وصداها… ولم يجنِ العطاء للبطل الأساسي له شيئاً إلّا الإحساس بدرجة أهميّته ومِنَحِهِ اللامحدودة.

الكتابة الكلاسيكية لـ هوجو في هذه الرواية تتّجه في الدرجة الأولى لمحاكاة الطبيعة والخضوع لقواعد موروثة صارمة من فنون العشق إلى المثاليات والغرام والتضحية بالنفس، وترجيح العقل على الخيال، وتصنيف الطابع الشخصي والاجتماعي إلى ما هنالك… فاتّخذ نوعاً ما سلوك فولتير منبعاً لهذا الاتجاه الذي سَلكه في كتابتها، فاتّسمت بانعدام الدفق العاطفي وانسكاب العنصر التحليلي المتكرّر، وهناك تعارض كبير بين الرواية والدراما إذ انّ الرواية تعتمد على التدرّج بالحبكة والحدث وتعنى بالمنطق والعقل، أمّا الدراما فتَنصّ على معرفة الكثير من طبائع البشر وأعمالهم، والتشنجات الفكرية والعاطفية.

 

ولكنّ هوجو لم يميّز كثيراً في المزج بين الإثنين بأسلوبٍ يَتّصِف بالعجز الحواسي للوصول به إلى إدراك القارئ، فجسّد لنا أبطالاً إيجابيين وسلبيين بصوتٍ خافت كلاسيكي أيضاً، يَئنّ ويجنّ من العواصف التي تلطم وجوه الرمال الناعسة التي تستلقي على شواطئ لامحدودة من الفلسفة والتفلسف.