كتب ريمون شاكر في صحيفة “الجمهورية”:
قبل الإستقلال وبعده، وفي كل العهود، والخلاف المسيحي ـ المسيحي، وتحديداً الماروني – الماروني لم يتوقف يوماً. المشكلة المستعصية التي لا حلّ لها، هي التنافس القاتل على رئاسة الجمهورية. فبعدما تحوّل بيان رئيس حكومة الإستقلال رياض الصلح «ميثاقاً وطنياً» غير مكتوب، أصبح كل مولود ماروني يحلم برئاسة الجمهورية.
إنّ ما تشهده الساحة المسيحية حالياً من نزاعات وخلافات على الوزارات والمراكز والحصص، هو حلقة جديدة من حلقات النزاع التاريخي بين «قايين وهابيل» المارونيّين. منذ بشارة الخوري وإميل إدة، وبشاره الخوري وكميل شمعون، إلى ميشال عون وسمير جعجع وسليمان فرنجية وجبران باسيل وغيرهم (مع حفظ الألقاب) لم يتغيّر شيء. بقي النزاع على كرسي الرئاسة هو أساس المشكلة بين الموارنة، ولا شيء غير ذلك.
فالأحزاب المسيحية بمجملها لم تختلف يوماً على العقيدة والمبادئ، أو على سيادة الوطن وحريته واستقلاله وحياده، وجميعها بلا إستثناء، رفضت المشاريع الوحدويّة والأحلام الناصريّة والفلسطينيّة وأفكار أنطون سعادة وميشال عفلق، فلا «الكتلة الوطنية» ولا «الأحرار» ولا «الكتائب» ولا «القوات» ولا «المردة» ولا «التيار» إبتدعوا عقائد جديدة ومختلفة عن غيرها، فجميعهم كانوا وما زالوا، على رغم توقيع «وثيقة التفاهم» بين «حزب الله» و«التيار الوطني الحر»، مع لبنان أولاً وأخيراً، ومع نهائية الكيان اللبناني، ومع وحدة الأرض والشعب والمؤسّسات، ومع الحياد الإيجابي ورفض التوطين… عهود كثيرة تغيّرت، ووصايات كثيرة تبدّلت، وبقيت الأحزاب المسيحية ثابتة في عقائدها. تغيّرت فقط الأسماء والأحجام وطغت وانتصرت «الكاريزما» الشخصية والشعارات البرّاقة والتحالفات الظرفية على المبادئ والرؤى.
لم يختلف الموارنة بعضهم مع بعض إلّا من أجل السلطة والنفوذ، ولم يتقاتلوا إلّا من أجل كرسي الرئاسة. حتى عندما إجتمعوا في «الحلف الثلاثي» و«الجبهة اللبنانية» و«قرنة شهوان» و»بكركي» لم يتّفقوا على الرئاسة، ولم يُبصر «إتّفاق معراب» النور إلّا بعد فراغ قاتل أنهك الوطن، ولم يوقّعه الطرفان المتباعدان إلّا عندما جمعتهما المصيبة وتلاقت المصلحة المشتركة لمنع أحد إخوتهم الطامح أيضاً إلى كرسي الرئاسة.
كان حلم الجنرال ميشال عون الوصول الى كرسي الرئاسة، فتحقّق له ما أراد، وكان حلم الدكتور سمير جعجع أيضاً الوصول الى الكرسي عينه، ولكن لم تساعده الظروف الإقليمية والداخلية، فاكتفى بمنع وصول النائب سليمان فرنجية إلى الرئاسة. لقد جمعتهما المصيبة ولم تجمعهما المحبّة، فنجح الإثنان في مسعاهما، ولكنهما لم ينجحا في إرساء علاقة أخويّة وصادقة وشراكة حقيقية بعيدة عن المحاصصة ومنطق الربح والخسارة.
لا تتعجّبوا إذا «فرط» إتّفاق معراب وسقط، فهو لم يولد ليعيش ويستمرّ، لأنّ المصالح المشتركة أوجدته والمصالح المتناقضة قضت عليه. يقول الدكتور سمير جعجع: «رفْضنا مناقصة بواخر الكهرباء هو أكبر تصويت مع العهد، لأننا جنّبناه صفقة العصر، وسنبقى نصوّت ضدّها الى أبد الآبدين».
لقد ظنّ الدكتور جعجع أنّ في إستطاعته التصدّي للوزير جبران باسيل ومعارضة مشاريعه «الكهربائية» وغيرها، والبقاء على تواصل وتوافق مع رئيس الجمهورية، كمَن يقول لأحد الآباء «إبنك أزعر وفاسد وبلا أخلاق، أمّا أنت فمِن طينة أخرى»! هذه قصّة لا يمكن أن تحدث إلّا في السويد أو سويسرا وربما في أميركا، ولكن ليس في لبنان والعالم الثالث.
عندما إنطلق الحوار في بداية عام 2015، والذي جاء بعد حوار «حزب الله»ـ «المستقبل»، كان هدفه وضْع حدّ نهائي للماضي التصادمي وفتْح صفحة جديدة من المصارحة والمصالحة، وعدم تحويل نقاط الإختلاف إلى خلاف وصراع، وفي حينه قال الجنرال: «بغضّ النظر على نتائجه، فقد رفع الحوار بحدّ ذاته العلاقات بين «التيار» و«القوات» إلى مستوى جديد من التواصل. لقد حوّل العلاقة من إنقطاع تام في العلاقات إلى مرحلة جديدة من التصالح والتفاهم».
في 10 آذار 2015، كتبنا مقالاً في جريدة «الجمهورية»، تحت عنوان «تريّثا قدر ما تشاءان ….. ولكن لا تُحبطا المسيحيين مرة جديدة»، وقلنا: «إنّ الأكثرية الصامتة من أبناء الكنيسة، ترحّب بأيّ حوار جدّي وبنّاء يكسر الجليد المتربّع على قلوب المسيحيين منذ ربع قرن وأكثر، ونصلّي كي يوفّق أمين سرّ «التيار الوطني الحر» النائب إبراهيم كنعان ورئيس جهاز الإعلام والتواصل في «القوات اللبنانية» ملحم رياشي، بتذليل كل العقبات التي تعترض لقاء الجنرال والحكيم».
بعد خمسة أشهر من المحادثات، وبعدما رُفعت الصلوات والنذورات، وملأت الدموع والشموع الكنائس والأديرة، توصّل «التيار» و«القوات» في 2 حزيران 2015 إلى توقيع وثيقة «إعلان النيات». فهلّل المسيحيون وابتهجوا، وكان فرحهم عظيماً (ولو أنّ البطريرك الماروني لا يحبّذ الثنائيات).
اليوم، المسيحيون يسألون: أين أصبح التنافس من دون خصام عند الإختلاف؟ وأين هو التواصل الدائم والبحث المستمرّ للتفاهم على كافة الموضوعات ذات الشأن العام؟ لقد ذهبت جميعها أدراج الرياح، وسقطت عند أول إستحقاق إنتخابي.
إنّ الذي حذّرنا منه في الماضي القريب، وصلنا إليه الآن، لأنّ المصالحة المسيحية إكتفت بما حققتهُ على صعيد رئاسة الجمهورية، ولم تحاول لمّ شمل بقية الأطراف المسيحيين، ولم تُبنَ على صخور المحبّة والتسامح، ولا على قيَم التضحية ونكران الذات، بل على رمال المصالح والحصص و»الوصولية».
عندما أعلن الوزير جبران باسيل تعليق العمل بـ»اتفاق معراب»، كان الإتفاق قد لفظ أنفاسه و»استشهد» منذ زمن بعيد على مذبح الشهوات والأنانيات.
إنّ ما نقرأه كل يوم في وسائل التواصل الإجتماعي، وما نسمعه في المنازل والمدارس والشوارع يُدمي قلوبنا ويقلقنا ويذكّرنا بحقبة أليمة من تاريخنا لا نريدها أن تتكرّر.
لقد فُتِحت معركة رئاسة الجمهورية على مصراعيها وعلى كلّ ما تختزنه من نزوات وأحقاد وتحدّيات، ولم يعد أمامنا سوى الصلاة لكي تبقى المصالحة المسيحية مقدّسة كما يردّدون، ولكي يبقى «ما يختلفون عليه في السياسة، يتفقون عليه في السياسة».