Site icon IMLebanon

محرقة الكرنتينا: فوضى الحرق بعد فوضى المكبّات

كتب حبيب معلوف في صحيفة “الأخبار”:

في وقت سرعت اللجان النيابية المشتركة إقرار مشروع قانون الإدارة المتكاملة للنفايات الصلبة، الذي يعتمد التفكك الحراري (المحارق) حلاً لأزمة النفايات، سارت بلدية بيروت بخطى متسارعة (ومتسرعة) لإقرار دفاتر شروط تلزيم المحرقة في العاصمة. الأطراف السياسية أطلقت شرارة إشعال المحارق في لبنان على رغم التباسات كثيرة وغموض يحيط بهذا الخيار سواء لناحية جدواه أو لناحية قدرة الحكومة على مراقبة أداء المتعهد والتزامه بشروط يبدو تنفيذها، كما هي على الورق، شبه مستحيل.

بعد طلب مجلس الوزراء في 11/01/2018 من مجلس الإنماء والإعمار التأكيد على إطلاق مناقصة محارق نفايات بالجملة خلال 6 أشهر كان السؤال الأساس حول الموقع الذي سيبنى عليه معمل التفكك الحراري (المحرقة) في بيروت.

مصادر وثيقة الصلة بما يدور في بلدية بيروت أكدت لـ«الأخبار» أن «كل شيء بات جاهزاً لإطلاق المناقصة»، وأن الموقع المختار سيكون في الكرنتينا على أرض مساحتها 45 ألف متر مربع قدّمتها البلدية. القدرة الاستيعابية لهذه المحرقة تقدر بـ 750 طناً يومياً (تقديرات نفايات بيروت الإدارية 700 طن يومياً). ويحدد دفتر الشروط نوعية المحرقة التي يفترض أن تعتمد تقنية grate للتفكك الحراري، وهي من الجيل السادس للمحارق المعتمدة في باريس ودبي والكويت. كما ينص على إنشاء معمل للفرز وآخر لمعالجة المواد العضوية، شرط أن تتولى هذه المعامل فرز وتسبيخ ما لا يقل عن 15% من النفايات التي ستذهب بعد ذلك إلى معمل التفكك الحراري. مدة العقد الذي سيوقع مع الائتلاف الفائز ستكون 20 سنة. فيما تقع كلفة إنشاء المعمل المقدرة بـ350 مليون دولار تقريباً على عاتق المستثمر، على أن تدفع بلدية بيروت (أو من يريد أن يشارك من بلديات أخرى) 90 دولاراً للطن الواحد تسلّم على باب المعمل. الدراسة التي استندت إليها دفاتر الشروط تتوقع أن يولد المعمل 20 ميغاواط يبيعها المتعهد لمؤسسة كهرباء لبنان، بعد أن يتولّى تمديد التوصيلات. فيما يتردّد بأن في المنطقة «بوست» كهرباء يستوعب 100 ميغاواط يمكنه أن ينقل الطاقة المولدة من المعمل إلى الشبكة. وينصّ دفتر الشروط أيضاً على مسؤولية المستثمر عن نقل الرماد المتطاير والعالق في الفلاتر للمعالجة خارج لبنان. أما رماد القاع والمقدر حجمه بما بين 25 و30% من النفايات، فسيتم استخدامه في المنشآت وعلى الطرقات. كما ستمنح الشركات فترة 6 أشهر لتقديم العروض، من تاريخ إطلاقها، على أن يتم إطلاق المناقصة بداية مطلع آب المقبل.

فوضى حارقة

على رغم كل هذه التطورات، لا تزال هناك إشكاليات وأسئلة لا أجوبة مقنعة لها، من بينها: ما هي علاقة هذا الخيار مع استراتيجية الدولة لمعالجة ملف النفايات، وهل كان التأخير في وضع هذه الاستراتيجية متعمّداً حتى إنشاء المحارق التي يفترض، بحسب العقود، أن يتم تشغيلها لفترة لا تقل عن 25 سنة؟ مما يعني في الحصيلة أن الحكومة اللبنانية اتخذت قراراً وخياراً استراتيجياً باعتماد المحارق، قبل أن تنجز أي استراتيجية، لا بل تقصدت ذلك لتمرير صفقة، بدل أن يأتي هذا الخيار معللاً كفاية من كل النواحي الاقتصادية والبيئية والاجتماعية!

السؤال الثاني: ما علاقة محرقة بيروت بمشاريع المحارق في بقية المناطق، والتي ظهر منها حتى الآن محرقة قرب دير عمار (2000 طن يومياً) وأخرى في الزهراني وثالثة يجري التفكير جدياً بإنشائها في منطقة صور؟ وإذا أخذنا في الاعتبار الاقتراح المقدم من وزارة الطاقة لتشجيع إنشاء محارق صغيرة على مستوى البلديات الصغيرة، فسنكون أمام استباحة كاملة لكل الأراضي اللبنانية وأمام فوضى «حارقة» لا مثيل لها!

وفيما تؤكد المصادر نفسها أن دفاتر الشروط التي كلف مجلس الإنماء والإعمار بوضعها أصبحت جاهزة، وفي انتظار عرضها على رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري، تؤكد مصادر أخرى أن هذه الدفاتر أصبحت لزوم ما لا يلزم. إذ لم تأخذ في الاعتبار المواقع ودراسة أثرها البيئي الشامل (مع ترجيح الأخذ بنصيحة «رامبول» بأن تكون بالقرب من محطات توليد الطاقة الكهربائية ومن البحر من أجل التبريد وتسهيل نقل الكهرباء). فيما يُستبعد أن تأخذ بنصائح البنك الدولي بعدم التوسع في هذا الخيار نظراً إلى كلفته العالية وإلى قلة خبرة الحكومة اللبنانية في إدارة محارق ضخمة من هذا النوع، كما لم يؤخذ بنحو 14 ملاحظة على هذا الخيار وعلى دفتر الشروط.

ماذا نفعل بالرماد؟

بالعودة إلى محرقة بيروت، لم يُفهم من دفتر الشروط كيف تم تسعير عملية التفكك الحراري وكلفة المعالجة المحددة بما بين 80 و90 دولاراً للطن الواحد. كما ليس واضحاً ما إذا كان رماد القاع لا يحتوي فعلاً على مواد سامة، ويسهل بالتالي خلطه مع مواد البناء كما هو مقترح. إذ إن الكثير من الدول الصناعية في العالم لا تزال تختبر طرق المعالجة وتضع هذا الرماد تحت الاختبار. وهي، في كل الأحوال، تطبق المبدأ القائل إن «الخيار الأفضل» هو الخيار الذي لا يترك آثاراً بيئية ضارة، وكلما تم اعتماد هذا المبدأ زادت كلفة المعالجة. فهل سيجد اللبنانيون أنفسهم، بعد حين، أمام معادلة: إما أن نترك الرماد (رماد القاع) الذي يشكل نحو 30% من وزن النفايات جبالاً جديدة أمام المحارق، أو ندفع كلفة أكبر مما هو محدد في العقد للمعالجة؟ ومن يضمن أن لا تأخذ الشركات الكلفة الأعلى من دون أن تعالج؟! وكذلك الأمر بالنسبة إلى الرماد المتطاير والأكثر سمّية وخطورة. إذ من يضمن أن تلتزم الشركات بصيانة نظام الفلاتر وتغييرها كل فترة، وأن تلتزم نقل الرماد العالق فيها (يقدر بما بين 1 و3% من وزن النفايات التي تدخل إلى معمل التفكك الحراري) إلى خارج الحدود، نظراً لكلفة معالجته العالية وغير المتوافرة في لبنان بالطبع؟

تخمير أم تجفيف؟

أكثر من ذلك: من يضمن أن يعمل نظام الفرز والتخمير جيداً، طالماً أن كل شيء سينتهي إلى المحرقة؟ علماً أن مصادر علمية متابعة تؤكد أن الوفاء بكل الشروط البيئية للتفكك الحراري ستزيد من كلفة معالجة الطن إلى أكثر من 120 دولاراً، ولذلك تتخوف من أن تكون عقود الفرز والتخمير شكلية، وأن يُدفع سعر مرتفع جداً للتفكك الحراري من دون الوفاء بالشروط البيئية والاقتصادية. كما أنه ليس مفهوماً هل ما سيجري هو عملية «تخمير» أم «تجفيف» للمواد العضوية تمهيداً لحرقها؟ وإذا كان مجلس الوزراء طلب من المتعهد توسيع معمل «كورال» للمعالجة والتخمير منذ سنتين تقريباً، فلماذا لا يزال هذا المعمل مقفلاً، وهل تم إعداده سراً للتجفيف تمهيداً للحرق، طالما أن متعهد الطمر اليوم يعرف سلفاً أنه سيكون هو نفسه متعهد الحرق في المستقبل؟

«الائتلاف المدني»… الشعارات وحدها لا تكفي

أمام هذا الواقع، وبعدما ظهر التوافق السياسي العريض جلياً في جلسة اللجان النيابية المشتركة الأسبوع الماضي على اعتماد خيار الحرق، من هي الجهات التي لا تزال معارضة؟ وماذا لديها من خطط للمواجهة؟

كان يمكن المراهنة على الائتلاف المدني الذي دعا إلى تحرك اليوم في محيط المواقع المحتملة لمحرقة بيروت. إلا أن هذا الائتلاف لم يستطع منذ انطلاقته أن يبلور رؤية مشتركة عميقة ومبدئية، تشكل رافعة حقيقية لمعارضة بيئية وطنية عريضة، لا تقتصر قوتها فقط على تأييد المتضررين المحتملين أكثر من غيرهم كالسكان المحيطين بالموقع المقترح. وقد بقيت نقطة ضعف هذا الائتلاف هي نفسها تقريباً نقطة ضعف الحراك الذي انطلق بعد أزمة عام 2015 وبقاء النفايات في الشوارع. فهذا الائتلاف لم يضع مبادئ يطالب بها، بدل الغرق في طرح البدائل التي ليست من مهامه. ولم يكن كافياً أن يكون الشعار «لا للمحارق»، إذ لا يزال في الائتلاف المدني من يطرح تحويل النفايات إلى وقود بديل RDF لأفران شركات الترابة كجزء من الحل! فكيف يقبل هؤلاء بحرق النفايات في أفران شركات الترابة ولا يقبلون بحرقها في محارق أكثر تجهيزاً ومخصصة لهذه الغاية؟! ولماذا يتضامن بعض هؤلاء مع السكان ضد محرقة مفترضة في بيروت ولا يتضامنون مع من يعترض على شركات الإسمنت كما هي الحال أمس في الاعتصامات على أوتوستراد شكا ــــ الهري ضد مصانع الإسمنت، على سبيل المثال؟ ومن قال لهذه «الحركة البيئية» إن السكان والأهالي بالقرب من شركات الإسمنت يقبلون بطرح تحويل النفايات إلى وقود بديل لأفران الشركات التي يتهمونها بقتلهم بالأمراض السرطانية؟ وكيف يمكن لحراك يضم فرقاء من هذه النوع أن يكسب صدقية؟ ومن قال إن الأماكن المشوهة بالعمل العشوائي لقطاع المقالع والكسارات والمرامل يمكن أن تشكل مواقع لمعالجة النفايات، مهما كانت، بدل أن يتشكل ائتلاف للمطالبة بتنظيم قطاع المقالع والكسارات وتغريم الملوثين وإلزامهم بإصلاح التشوهات التي تسببوا بها؟!