كتب ناصر شرارة في صحيفة “الجمهورية”:
بعد قمّة هلسنكي، شاع في اوساط لبنانية انّ أجواء انفراج دولية ستشيع قريباً، وستفيد في تسهيل تأليف الحكومة. وخلال لقاء «فنجان قهوة» الذي نظّمه القائم بأعمال السفارة السعودية في لبنان وليد البخاري في «بيت بيروت»، إعترف أنه حتى اليوم «لا نعرف النتائج الحقيقية لقمّة هلسنكي». وأكد أنه سأل ديبلوماسيّاً فرنسيّاً، عن هذا الامر فأجابه: «لم نعرف بعد»!
وفي ظلّ التعمية الإقليمية، وحتى الأوروبية، على ما اتّفق عليه بوتين وترامب في قمّتهما الاخيرة، يسود إنتظار لن يطول قبل معرفة ما أنتجته قمة هلسنكي من تفاهم حول سوريا، وكيف سينعكس ذلك على لبنان.
ومنذ بدء الأزمة السورية عام 2011، أصبحت فرصة تأليف الحكومات في لبنان، مرهونة بوقائع التحوّلات التي يشهدها الميدان السوري. نهاد المشنوق كان اطلق على حكومة نجيب ميقاتي التي جاءت بعد الإطاحة بحكومة الحريري تسمية «حكومة جسر الشغور». ومصادر «حزب الله» أطلقت عام 2016 على الحكومة التي شكلها حينها الحريري تسمية «حكومة حلب» وذلك لتفسير الربط بين خروج المسلّحين من حلب ونيل فريق 8 آذار منها 17 مقعداً وزارياً، في مقابل 13 فقط لفريق 14 آذار.
وخلال فترة «عمر تكليف» الحريري التي سبقت قمة هلسنكي، إعتبرت أوساط أنّ تأليف الحكومة مؤجّلٌ في انتظار اتّضاح نتائج ما سيحدث في منطقة جنوب سوريا التي كانت تشهد ذروة نزاع الإرادات بين الإسرائيليين والإيرانيين والنظام تحت الادارة الروسية.
يبدو أنّ التفاوض والتنفيذ العملي لتفاهم منطقة خفض التوتر في جنوب سوريا الذي شاركت فيه واشنطن، (علماً أنها لم تشارك في غيره من تفاهمات خفص التوتر الأربعة في سوريا)، قد وصل الآن الى نتيجة مقبولة لدى جميع الاطراف الضامنة له مباشرة، وهي موسكو وواشنطن وعمان ودمشق، وايضاً تل أبيب الشريكة غير المباشرة فيه.
وفي المعلومات أنّ تفاهم جنوب سوريا، له تأثيرات اوسع من كونه مجرد ترتيب أمني انتقالي في الميدان السوري، كما حدث في منطقتي خفض التوتر في الغوطة الشرقية وحلب. وتتّسم تأثيراته بأنها إقليمية، وأنّ نتائجه لها انعكاسات على «قواعد الاشتباك الاسرائيلي مع حزب الله»، فضلاً عن صلته بإعادة الوضع في منطقة الحدود السورية مع الجولان المتحلّ الى مرحلة إتفاق وقف النار السوري ـ الاسرائيلي للعام 1973، ما يعني أنه يضمن الفصل بين مسارَي جبهتي جنوب لبنان وجنوب سوريا مع إسرائيل.
وبحسب معلومات لـ«الجمهورية» فإنّ إسرائيل لم تنجح في الضغط عبر روسيا لفرض معادلتها التي تربط موافقة تل أبيب على إنتشار الجيش السوري على حدود الجولان في منطقة جنوب سوريا، بتنفيذ مطلبها سحب الإيرانيين و»حزب الله» من كل سوريا، ما اضطرّها الى استبداله بمطلب سحب صواريخ الحزب وإيران من عيارات قوية ومحدّدة، الى خارج سوريا. ولا يزال هذا المطلب مُعلّقاً.
وتؤكّد هذه المعلومات أنه بحسب تفاهم جنوب سوريا، فإنّ قوة «الإندوف» ستعود الى مواقعها السابقة على خط منطقة القنيطرة ـ الجولان بعد إتمام الجيش السوري دخوله لهذه المنطقة. وفي كل اتّفاق منطقة جنوب سوريا، ستراعي دول جوار سوريا مطالب بوتين الأساسية وهي انتشار الجيش السوري على الحدود السورية مع كل من الأردن والجولان المحتل في وقت واحد تقريباً، وفتح معبر «نصيب» لأنّ فتحه أمام حركة التجارة البرّية يساهم في تحقيق هدف ملحّ، وهو «المساهمة في تأمين الاستقلال الاقتصادي للنظام السوري»، الأمر الذي يُسهِّل إنخراط الدولة السورية في تنفيذ «تفاهم هلسنكي» في شأن البدء بإعادة النازحين السوريين.
والواقع أنّ لبنان في ظلّ توازناته الداخلية ووقائع الحرب الباردة الإقليمية – الدولية مع إيران في ميدانه، ستكون لنتائج تفاهم جنوب سوريا تأثيرات عليه، وذلك من الزوايا الآتية: واقع تبريد النزاع الإيراني ـ الإسرائيلي في جنوب سوريا، سيعيد الوضع في لبنان بين «حزب الله» واسرائيل الى قواعد الاشتباك التي كانت سائدة بينهما في مرحلة ما قبل الدخول العسكري للحزب الى سوريا. كما أنّ عنوان معبر «نصيب» في «تفاهم جنوب سوريا» الذي يتصل بالتجارة البرّية وتمويل خزانة الدولة السورية للإنفاق على إعادة النازحين، سيؤكّد الحاجة الدولية في لبنان الى تأليف حكومة توافقية ثلاثينية تقبل بالتعاطي المباشر مع الدولة السورية لأنها الجهة الوحيدة المخوّلة إدارة العلاقات التجارية البرّية معها.
تستطيع دمشق وحلفاؤها اللبنانيون في ظلّ إتمام «تفاهم جنوب سوريا» ذي البعد الإقليمي فرض شروطهم في شأن هوية الحكومة المطلوب تأليفها في لبنان، وهي: حكومة تقبل بتطبيع العلاقة مع الدولة السورية، أقله في موضعين استراتيجيّين للبنان، وهما عودة النازحين وعودة تجارة لبنان البرّية مع البلدان العربية عبر «نصيب». ويبدو أنّ العدّ العكسي للخروج من شلل التأليف الحكومي سيكون له ممرّ إجباري في المدى المنظور، وهو إنتاج حكومة تلبّي بتوجّهاتها وتركيبتها الموجبات الدولية لـ«تفاهم جنوب سوريا».