كتب وسام أبو حرفوش في صحيفة “الراي” الكويتية:
يقفُ لبنان على حافةِ مرحلةٍ غامضةٍ في ضوءِ الاستعصاءِ الذي يصيبُ عمليةَ تشكيلِ حكومةٍ جديدةٍ بالتزامنِ مع بلوغ الصراع على معاودة «تشكيل» المنطقة مراحلَ انعطافيةً تجعلُ من نفوذ إيران وأذْرعها عنواناً يَتقدّم على سواه ويُصيبُ لبنان كواحدٍ من قوْسِ الأزماتِ في الإقليم وخَرائطِه المُمَزَّقة.
وثمة اقتناعٌ في بيروت ودوائرِها «الضيّقة» بأنه إذا أردْتَ معرفةَ ماذا يُعَدُّ للبنان، عليكَ وقبل أيّ شيءٍ آخَر أن تَعْرِفَ ماذا يريد «حزب الله»، الطرفُ المحلي – الاقليمي الأقوى والذي غالباً ما يقال إنه الناظمُ السياسي – الأمني الذي يدير اللعبةَ في البلاد وإنْ بأسلوبِ دَفْعِ المَرْكب تارةً من الأمام وتارةً من الخلْف.
أحد المُهْتَمّين بسبْر أغوارِ الواقعِ المأزومِ الآن، «يَنْبشُ» موقفاً أعلنه نائب الأمين العام لـ «حزب الله» الشيخ نعيم قاسم قبل نحو أسبوعٍ من الانتخابات النيابية التي جرت في 6 مايو الماضي، ومَرَّر فيه تحت جنْح الضوْضاء السياسية آنذاك مجموعةً من الرسائل على طريقةِ «ما قلّ ودلّ»، ومن شأن تَعَقُّبِها فَهْمُ ما يجري حالياً في لبنان.
قال قاسم يومَها وبالفمِ الملآن إنه «بعد الانتخابات مرحلةٌ جديدة، يمكن أن يُبنى فيها على التسوية السياسية السابقة، ويمكن أن تُجرى تعديلاتٌ على تلك التسوية، ولا يمكن أن نفترض أن النَمَطَ السابقَ سيبقى كما هو»، قبل أن يذهب أبعد حين تَحدّث عن «أننا لم نقرّر إذا كنا سندعم (زعيم«تيار المستقبل») سعد الحريري لرئاسة الحكومة».
وكان «حزب الله» يُدْرِكُ أنه سيكون له ما أرادَ في الانتخاباتِ التي جرتْ. فهو أدارَ وبمهارةٍ مفاوضاتٍ اقتادَ عبْرها الجميع إلى قانونٍ كان من الواضح، في عزّ الكرّ الفرّ حوله، أن الأمرَ سينتهي به إلى صيغةٍ تتيح للحزب الفوزَ بغالبيةٍ برلمانية يشكل قاطِرَتَها، مستفيداً من الحسابات «غير السياسية» والخاطئة للآخرين الذين سَقَطوا «في الفخّ».
ولم يكن اشتراطُ «حزب الله» إقرار قانونِ انتخابٍ جديدٍ يقوم على النسبية تَرَفاً سياسياً. فهذا المطلبُ شكّل الركنَ الثالثَ من التسوية السياسية التي أَنْهتْ الفراغَ الرئاسي، وهو ما كان التزمَ به الرئيس الحريري عَلَناً، ومن خارج النص، يوم تكليفه تشكيل الحكومة الأولى بعد انتخاب العماد ميشال عون رئيساً، وما تبنّاه رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع وبـ «أي ثَمَنٍ» في اتفاقِ معراب.
وبهذا المعنى، فإن «حزب الله» نَجَحَ عبر التسوية وتَفاهُماتِها، في أَخْذِ الرئاسةِ إلى حليفه زعيم «التيار الوطني الحرّ» العماد عون، وفي أَخْذِ البرلمان بقانونِ انتخابٍ مكّنه من الفوز بـ 74 نائباً، بشهادةِ الجنرال الإيراني قاسم سليماني الذي رأى أنه لا بدّ من «حكومة مقاومة» في لبنان، تلك الحكومة التي أَدْخَلَ الصراعُ عليها لبنان في مأزقٍ حقيقي.
قليلون ربما هم الذين يعرفون أن «حزب الله» لم يُسَلِّم تلقائياً بعودة الحريري الى رئاسة الحكومة. فـ قبْل تسميتِه من 111 نائباً من أصل 128، خَضَعَ الأمرُ لمناقشةٍ في دوائر القرار في الحزب على قاعدة المفاضلةِ بين «الحاجة الاقتصادية» لبقائه والرغبة في إقصائه لـ «رمزيّتِه الإقليمية»، رغم الاقتناعِ بأنه لا ينفّذ أجندةً إقليميةً (سعودية) في لبنان.
وفي المحصلة، اختارَ «حزب الله» تسهيلَ معاودةِ تكليف الحريري بتشكيلِ الحكومة لاعتقادِه أن زعيم «المستقبل» سيكون ضعيفاً بعد خروجه متعَباً من الانتخابات، وأكثر مطواعية لافتقارِه الى الرافعةِ الإقليمية في ضوء تداعياتِ أزمةِ استقالته من الرياض في 4 نوفمبر الماضي، على أن يُصار إلى المجيء بحكومةٍ تَعْكِسُ التوازنات الجديدة.
وفي كلامٍ بلا قفازاتٍ حريرية لإحدى الشخصيات التي التقيْناها، وهي تشكّل نقطةَ تَقاطُعٍ بين «حزب الله» وحزب رئيس الجمهورية (التيار الوطني الحر)، جرى رسْمُ المَشهد الحالي على أنه عادَ إلى ما كان عليه قبل العام 2005 (اغتيال الرئيس رفيق الحريري)، أي أن الانتخابات النيابية شكّلتْ انقلاباً أطاحَ بالتوازنات التي أَعْقَبَتْ «انتفاضةَ الاستقلال» وخروج الجيش السوري.
وفي ضوء هذه المقاربة، لم يَعُدْ مُفاجئاً الكلامُ عن تَفاهُمٍ بين قيادتيْ «حزب الله» و«التيار الوطني الحر» على الضغطِ على الحريري إما للتسليمِ بتأليفِ حكومةٍ تَعْكِسُ انقلاب 7 مايو 2018 (الانتخابات) وإما العمل على «إحراجه لإخراجه» عبر التذكيرِ بما كانت عليه التجربةُ بين الرئيس السابق إميل لحود والحريري – الأب حيث اضطرّ معها الأخير لترْك السلطة مرّتيْن في أوضاع مُشابِهة.
ولأن الشيء بالشيء يُذكر، فإنه في مرحلة لحود – الحريري الأب كان النظام السوري يُمارِسُ الضغوطَ لرسْم قواعد اللعبة، وهو الذي يُطِلّ برأسه من جديد بعدما تَأكَّدَ العملُ على «تثبيتِ» الرئيس بشار الأسد، وسط سعي تَحالُف عون -«حزب الله» لإعادة وصْلِ ما انقطعَ معه في إطارِ استعجالِ عملية تطبيعٍ من بوابةِ النازحين أو عن طريق معبر نصيب.
ومَن يدقّق في الكلام «اليومي» المنسوب الى رئيس الجمهورية عن انتصارِ سورية وتحميلِ السعودية مسؤولية عرْقلة تشكيل الحكومة، وعن علاقته «الروحانية» بزعيم «حزب الله» السيد حسن نصر الله وإصابة الحريري بـ «متلازمة ستوكهولم»، وتلويحِهِ بحكومةٍ بشروطه أو بحكومةِ أكثريةٍ، يُدْرِك أن لبنان دَخَل مرحلةً غامضة على أَطْلال التسوية السياسية التي يُراد الإجهازُ عليها بنتائج الانتخابات.
الثابتُ حتى الآن أن الحريري لن يَرْفَعَ الرايات البيض ولعبةُ عضّ الأصابع قد تسرّع سقوط الهيكل، وأن الإقليمَ يغلي على نارٍ تَلْفَحُ بتظاهراتِها إيران وتُزْعِجُ «حزب الله» في سورية وقد تجعل من براميل النفط براميلَ بارود، ومن إسرائيل علبةَ مفاجآت… فأيّ لبنان سيكون عليه الوطنُ المَسْكونُ بالكوابيس؟