كتبت نسرين بلوط في صحيفة “الجمهورية”:
جاء عصرُ التنوير في أوروبا الذي تطوّرت حركتُه في بداية القرن الثامن عشر وخصوصاً في فرنسا، واقتحم بأفكاره المضيئة المتساقطة رُضاباً من المطر، بمثابة تغيير جذري وانقلاب في آراء العلماء والفلاسفة والكتّاب الذين بدأوا آنذاك ينهلون من روح الحداثة، يستنبشونها فتُساقِطُ عليهم رطباً من السخرية اللاذعة والنقد العام للمجتمع في شتّى نواحيه الفكرية والإجتماعية والسياسية والانعتاق من الميتافيزيقية، التي خيّمت بظلالها المقنّعة بالوهم على عقول المثقّفين وعامة الشعب على حدّ سواء.
عني الكتّاب الفرنسيون بشكلٍ خاص بظاهرة بائعات الهوى اللواتي كنّ يعشن كالملكات في جوٍّ رقراق من التدليل والعزّ في حياتهنّ، ثم يُلقى بهنّ في القمامة ولا يشرّع أيُّ كاهن لمعارفهنّ دفنهنّ في مقبرة مسيحية بعد موتهنّ. وهذه الظاهرة قد عمّت أوروبا وانتشرت في فرنسا التي كانت تزخر بشعراء وأدباء وفلاسفة مميّزين. ومن أبرزهم: جان جاك روسو وفولتير وديدرو.
حياة بائعات الهوى
ومع تطوّر عصر التنوير واستثاراته للأفكار النقدية، انتشرت الروايات النقدية اللاذعة التي تتناول حياة بائعات الهوى وما يؤول إليه مصيرهنّ مع انحسار الضوء عنهنّ، عندما يتهاوين في درك الشيخوخة ويصلن إلى مرحلة العدم.
من أبرز الغانيات في ذلك العصر ابولوني ساباتير، التي كان يدعوها عشّاقها بلقب «الرئيسة»، وقد عمدت إلى تحويل بيتها الى صالون مخملي برجوازي، من أبرز زوّاره يوجين ديلاكروا وغوستاف فلوبير، وخصوصاً شارل بودلير الذي كانت ساباتير تمثّل له مصدراً للوحي.
وقد استوحى الكاتب الكسندر دوماس بطلة روايته غادة الكاميليا La Dame aux camélias من هذه البيئة المزيّفة، ولقّبها بـ»مارغريت جوتيير»، وحوّلت روايتها إلى مسرحية دراماتيكية مؤثرة، حرّكت قلوب الكثيرين وحثّتهم للشعور بروح الشفقة إزاء هذه الفئة من النساء المهمّشات في المجتمع الفرنسي المتبجّح بالقيَم والأخلاق المقنّعة بالخبايا والأسرار. مع العلم بأنّ رواية دوماس مستمَدّة من الواقع وبطلتها الحقيقية كانت غانية عاشت وماتت في ذلك الوقت وتدعى ماري دوبليس.
أنّا كارنينا
وللإشارة أنّ تولستوي قد كتب رائعته «أنّا كارنينا»، التي تمثل دور غانية قبل سنتين فقط من دوماس، وحقّقت نجاحاً مدوياً، وراقت للكثير بعد الثورة الصناعية التي حدثت في أوروبا وشغف الناس بالمادة دون سواها ما ولّد طبقات ارستقراطية حديثة النعمة تتغنّى بما تمتلك، وتضحّي بالغالي والنفيس وحتى الكرامة في سبيل المال، ولكن أنّا ظُلِمَت من مجتمعها ولم تكترث للنقود وضحّت بزواجها التقليدي وبسمعتها في سبيل مَن تحبّ وكانت نهايتها أن ألقت بنفسها تحت عجلات القطار المميتة. وهذه عيّنة من الزوجات الخائنات بسبب الحب لا بسبب المال، ولكنّ الآخرين أصدروا بحقها الشرائع المجحفة وأطلقوا عليها لقب «غانية».
كنديد
ونأتي لرواية «كنديد» للأديب الفرنسي فولتير، الذي كان ينادي فيها بطريقة إيحائية مبطّنة داعية لتجديد الدولة وخلايا المجتمع، ويطالب من خلالها بإلغاء امتيازات الإكليروس، ويناشد بأن تكفّ الكنيسة عن الإجحاف والظلم بحق رعاياها، ويلقي ظلال إصراره على عدم ازدراء المرأة أنّى كان شأنها، ساخراً من أفكار المجتمع الذكوري الصارم التي تعامل الغواني برقيٍّ في حياتهنّ وتحتقرهنّ عندما يكبرن، ومن ثم تمنع الكنيسة دفنهنّ في حال وفاتهنّ. وكان البعد الإنساني حاضراً بين ثنايا روايته شارحاً باقتضاب مدى الظلم الذي أحيق بهذه الطبقة من النساء.
مولان روج
وقد تسبّبت رواية البؤساء لفيكتور هوجو التي سلّطت الضوء على بائعة الهوى فانتين بهزّة مجازية في فرنسا، إذ حاول إحداث ثورة تساهم في تحديد ملامح التغيير والتبديل والتحوّلات في مجتمعه، متجرّعاً البؤس من خلال أبطال روايته التي نجحت نجاحاً ساحقاً هائلاً وتُرجمت إلى معظم لغات العالم.
وقد انتشرت في تلك الحقبة من الزمن وخصوصاً في باريس الغانيات اللواتي يتّخذن من شرفات المقاهي الشهيرة مثل «مولان روج» و»فوليس برجير» مركزاً لعملهن ورصدهن للأغنياء.
ولم يقتصر النقد والتصوير على الكتّاب والفلاسفة، بل تشجّع الكثير من الرسامين أمثال إدوار مانيه وبيكاسو وغيرهما لتجسيد ملامح الصورة الكاملة، مع العلم بأنّ البغاء كان يمارَس بضوابط قانونية صارمة، وكان القانون يفرض على بائعات الهوى بأن يخضعن لفحوصات طبّية كل شهر، وهذا يضيف لعنة أخرى على كيانهن، لشعورهن بالإختلاف والإزدارء.
وقد كتب بودلير نقداً لاذعاً عن المجتمع الأوروبي وخصوصاً الفرنسي الذي يحتضن الغانيات والفن الذي اعتبره نوعاً من البغاء، واصفاً باريس بالماخور العملاق.
مرض إجتماعي
مع العلم بأنّ مصطلح «الغانيات» آنذاك، كان مختلفاً عن مصطلح «بائعات الهوى»، لأنّ الغانيات كنّ يرفلن بالجواهر الثمينة، ويتبخترن في شوارع باريس بتبجح ودلال، ويتمرّغن في حياة الترف والبذخ، أما بائعات الهوى فكنّ فقيرات بائسات، معظمهن قدم من القرى البسيطة والفقر المدقع.
هذه الروليت النفسية التي كانت سائدة كمرض متأصّل في جذور المجتمع الأوروبي قد كانت واعزاً لتحريك المجذاف الإبداعي لبحّاري الأدب والعلم والفكر. فولّدت عندهم بيروقراطية الحداثة والتصميم على ترسيب أفكار حضارية وإنسانية، فمعظم الغانيات في العصر الآنف ذكره كنّ يشكون من «الميثومانيا» أي مرض الكذب، الكذب على أنفسهن وعلى الآخرين بالشعور بالسعادة التي كانت أضغاث الحزن بعينه. فقد كانت حياتهن مرهونة على كرم زبائنهن ونهايتهن مجهولة في أيدي الفقر، والتجاهل والتهديد.
وقد شكّلت تلك النساء واعزاً ميتافيزيقياً هاماً للمثقفين والمنقّبين في هموم المجتمع ودخائل النفوس البشرية ليقوموا من أجلهنّ بانتفاضة هامة كان لها الأثر الكبير في المجتمع الأوروبي وانتقلت تلك الثورة فيما بعد إلى المجتمعات الأخرى.