كتب جوني منير في صحيفة “الجمهورية”:
لم يكن الكلام دقيقًا حول وجود ضغوط دولية على المسؤولين اللبنانيين لإنجاز التشكيلة الحكومية فورًا. الصحيح أنّ السفراء الغربيين وفي طليعتهم سفراء الولايات المتحدة الاميركية وفرنسا وبعض الدول الاوروبية، طالبوا بوجوب ولادة الحكومة نظرا للوضع الاقتصادي الخطير الذي يهدد لبنان ولفتح الأبواب امام مقررات مؤتمر «سيدر» وغيره، ولكن هذه المطالبة جاءت في اطار التمنيات وليس وفق مفهوم الضغط والفارق كبير. فالضغط يعني التلويح بإجراءات أو خطوات، فيما التمني أو المطالبة يبقيان في اطار الكلام أو الحثّ ولكن من دون مفاعيل تنفيذية.
والموقف الغربي لا يعني أبدًا أنّ العواصم الكبرى لا تريد ولادة سريعة للحكومة، لكن جلّ ما في الأمر أنها منشغلة بالكامل بالملف السوري والتطورات الاقليمية الهائلة والمتسارعة، اضافة الى مشاكلها على المستوى العالمي ولاسيما تلك التي تعترض العلاقات الاميركية- الاوروبية. باختصار يقول احد المتابعين: هنالك ما يكفي من المشاكل التي تحجب الاهتمام الغربي عن لبنان.
ففرنسا غارقة في مشاكلها الناشئة عن العقوبات الاميركية على ايران. فشركة رينو رفضت الالتزام بالعقوبات لأن مصالحها الملحّة تفرض عليها ذلك.
أضف إلى ذلك أنّ الواقع اللبناني يتأثر مباشرة بالملفين الايراني والسوري. فعلى المستوى الإيراني هنالك التأثيرات التي تطال حزب الله اضافة إلى أمورأخرى. وتجدر الإشارة في هذا المجال إلى اللقاء المعلن الذي حصل بين مدير عام الأمن العام اللواء عباس ابراهيم ونزار زكا، والذي اعتُبر بمثابة إشارة إيرانية وديّة باتجاه واشنطن، خصوصًا أنّ مسؤولين أميركيين كبارًا كانوا قد طلبوا مساعدة ابراهيم في هذا المجال.
أمّا على المستوى السوري، فهنالك مشاريع التسويات السياسية لترتيب مرحلة ما بعد الحرب، والتي تتضمن الكثير من الملفات التي تهمّ لبنان وفي طليعتها ملف عودة النازحين، وتدشين العلاقة المباشرة بين حكومتي البلدين التي تعترض عليها السعودية. وعلى سبيل المثال فإن روسيا المزهوّة بانتزاع الإقرار الأميركي بدورها الجديد والواسع في الشرق الأوسط تعمل بحذر في ملف عودة النازحين. فهذا الملف زاد من قوة روسيا ودورها، لأنه يتجاوز الجغرافيا السورية. فالإقرار بالدّور الروسي في معالجة ملف النازحين يعني حكماً تشريع دورها وحركتها في لبنان وتركيا والاردن والعراق وربّما أبعد من ذلك.
حتى الآن لم تعلن روسيا عن وجود خطة وبرنامج واضحين لإعادة النازحين. عناوين عريضة فقط حملها الوفد الروسي. لكنّ همساً بدأ يظهر في الكواليس الديبلوماسية يشير الى وجود نية روسية لضم لبنان الى الوفود المشاركة في محادثات استانة كما جنيف، ولكن في مرحلة ثانية عندما يحين طرح ملف النازحين. وهذا يطال مباشرة برنامج عمل الحكومة المقبلة.
كذلك هنالك تمويل مشروع إعادة النازحين ومن سيتولاه ووفق أيّ توزيع مناطقيّ سيحصل في سوريا، لاسيّما أنّ خطّة إعادة الإعمار ستلحظ التوزيع السكاني انسجاماً مع مرحلة دروس الحرب ومآسيها. وهنالك الكثير الكثير من التفاصيل غير المعروفة بعد، حول كيفية نقل هؤلاء وأوضاعهم، رغم أنّ الرئيس السوري يتحضر لأن يعلن عفواً عامّاً عند إعلانه خطاب النصر لحظة الانتهاء من ادلب.
والواضح أنّ كلّ هذه التفاصيل الشائكة ولكن المهمة جدّاً، لا يمكن الإجابة عنها إلاّ من خلال الدور الروسي القادر أيضاً على إعطاء الضمانات المطلوبة من الحكومة العتيدة، وبالتالي تدوير زوايا مشاكلها
في الأفق المحتبس ومضات إيجابية قابلة للتطوّر:
الاولى: تتعلق بلقاء اللواء ابراهيم مع نزار زكا، فيما يحكى عن زيارة لابراهيم إلى واشنطن نهاية الصيف.
الثانية: زيارة بعيدة عن الإعلام لوزير الخارجية العماني يوسف بن علوي قبل أيام إلى واشنطن في إطار السعي لإطلاق مفاوضات غير مباشرة بين واشنطن وطهران، على أن تكون المباشرة بعد التزام واشنطن بالاتفاق النووي. وكانت السلطنة احتضنت اجتماعات مباشرة أميركية – إيرانية بقيت بعيدة عن الإعلام وأدّت إلى نتائج عمليّة.
أمّا الومضة الثالثة فتتعلّق بإعادة فتح ايران لمكتب ديبلوماسيّ لها في السعودية، سيترأسه رئيس مكتب سلطنة عمان واليمن في الخارجية الإيرانية ولهذا دلالات عميقة.
وفي الومضة الرابعة ما يتردد همساً في الكواليس الديبلوماسية عن تواصل سوري – إماراتي لا تبتعد السعودية عن اجوائه. صحيح ان هذا التواصل ما يزال في بداياته لكنه يؤسس لاحتمال تدشين مرحلة جديدة.
لكن الامور ليست بسيطة بل معقدة وصعبة ومتشابكة. فالرئيس الاسد يركز على كيفية اعادة ترتيب الوضع والتسويات السياسية المطروحة وانتخابات الرئاسة في العام 2021، والذي يدخل ملف عودة النازحين في صلب حساباته. هو يريد استعادة الشرعية الدولية لنظامه بموازاة تحقيق التقدم في التسوية السياسية.
لكن التعقيدات لا تقف عند العملية السياسية، بل ان المخاطر العسكرية ما تزال موجودة وسط من يسعى لزرع الالغام. فمثلاً يهدف الضغط العسكري على ادلب الى تسريع الحل السياسي حولها، ويحكى عن اقتتال بين فصائل المسلحين سيحصل على ان يجري لاحقاً نقل عشرات الآلاف من المسلحين الى الصحراء الفاصلة بين سوريا والعراق. وهذا يعني ضمناً وجود وظيفة مستقبلية لهؤلاء المسلحين تطال قطع التواصل الايراني- العراقي – السوري وربما اكثر من ذلك.
فمثلاً تساءل الكثير من المراقبين عن السبب في «الحفاظ» على ملوك «داعش» في الصحراء، واستمرار تزويدهم بالسلاح والذخائر ومتطلبات البقاء ولو بشكل مدروس.
وفجأة عاد هؤلاء وشنّوا هجوما مباغتا على مجموعات «حزب الله» في دير الزور، والاخطر كان الهجوم على الدروز وقيل انّ تسهيلات أعطيت لمجموعات داعش للوصول الى السويداء. وفي ابسط تقدير لم تنذر القوات الاسرائيلية دروز اسرائيل بالخطر الذي يتهدد اخوانهم في السويداء.
كان المقصود بكل ذلك رسائل بنيات داعش، ولكن ممهورة بتوقيع القوات الاميركية وموجهة الى النظام السوري والى روسيا ايضا.
طبعاً المقصود من هذا العرض ليس القول انّ ولادة الحكومة اللبنانية عليها ان تنتظر كل ذلك. لكن الواقعية تفرض القول انّ حسابات الحكومة تتأثر بالتعقيدات الموجودة، كما ان ولادتها قد تأتي في اطار «الومضات» الايجابية التي تظهر في الافق على ان تكون روسيا وحدها القادرة على تأمين الظروف المطلوبة من خلف الكواليس.
«ومضة» لبنانية ترفع من مستوى الايجابية بين الفرقاء الاقليميين وتصبح معها العقد الداخلية المعروفة غير ذي شأن، كمثل تضمين الثلث المعطّل الذي يطالب به ضمناً التيار «الوطني الحر» بوزراء ودائع بحيث «لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم».
لكن هذا الأمر بحاجة الى بعض الوقت وبعض الحظ وبعض الهدوء.