كتب جوني منيّر في صحيفة “الجمهورية”:
ليس من المبالغة القول انّ المنطقة تنتظر نتائج الكباش العنيف الحاصل بين إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب وجناح المحافظين في إيران.
صحيح انّ هذا الكباش يبدو قاسياً في بعض جوانبه لكنّه محكوم بعدم دفع الأمور الى نقطة اللاعودة أو المواجهة المباشرة.
لكنّ فريق ترامب العازم على ترتيب تفاهم سياسيّ عريض مع طهران، حول مصالح الولايات المتحدة الأميركية في الشرق الاوسط، بذريعة إعادة صياغة اتفاق جديد حول النووي الإيراني، هذا الفريق يضغط بشدّة على الوضع الاقتصادي الإيراني الصعب، ويسعى لإنهاك النظام الحاكم من خلال رفع مستوى إثارة الشارع ضدّه.
أمّا طهران، والتي تحسب بعناية للأزمات الصعبة التي تطوّق ترامب داخل بلاده، تدرك جيداً أنّ الحزب الجمهوري يعيش قلقاً بالغاً من النتائج التي تلوح في أفق الانتخابات النصفية الأميركية، وتعمل على حرمان واشنطن من مكتسبات في الشرق الاوسط تستطيع توظيفها في الحملات الانتخابية. ما يعني في المحصّلة انّ الطرفين يمرّان بحشْرة، وقد يكون السبيل الوحيد المتاح أمامهما هو التراجع خطوة الى الوراء لكلّ منهما.
وفي دلالة واضحة على الحشْرة الإيرانية، التجاوب مع الاتّفاق حيال جنوب سوريا، ومن ثمّ إعادة فتح مكتب ديبلوماسي لها في السعودية. وأمّا الحشْرة الأميركية فتجلّت في تراجع إدارة ترامب عن إطلاق صفقة القرن وتأجيله الى ما بعد الانتخابات النصفية الأميركية، وربّما انتخابات الكنيست الاسرائيلية، بما يعني تجميدها حتى النصف الأوّل من العام 2019.
ما يعني انّ الرئيس الأميركي يحاذر المخاطرة بانعكاسات سلبية محتملة لإعلان مشروعه، وبالتالي سقوطه وتأثير ذلك سلباً على الانتخابات النصفية التي تؤشر أصلاً لتراجع مثير لحزبه. لذلك أعلنت إدارة ترامب عن حزمة عقوبات قاسية على إيران ولكنّها مدروسة. عقوبات تشدّ الخناق الاقتصادي لكنّها لن تكون شاملة.
وفي كلّ الاحوال فإنّ ترامب يفرط في استخدام سلاح العقوبات في إطار سياساته الدولية، بينما يهمل أسلحة أخرى مثل المفاوضات أو التنسيق مع الحلفاء.
وتكفي الإشارة الى أنّه خلال شهر واحد، وهو شهر شباط الماضي، فرضت واشنطن عقوبات بالجملة على كوريا الشمالية وجماعات وأفراد في كولومبيا وليبيا والكونغو وباكستان والصومال والفيليبين ولبنان. وأظهرت إحدى الدراسات أنّه في 200 حالة فرض عقوبات حصلت منذ العام 1914 وحتى العام 2008، 13 حالة فقط أدّت الى نتائج سياسية حاسمة وحققت أهداف الإدارة الأميركية.
وصحيح أنّ العقوبات الأميركية على كوريا الشمالية فتحت الطريق أمام القمّة بين البلدين، لكنّ الهدف كان السلاح النووي، وهو ما لم يتحقّق حتّى الآن. والذي يبدو أنّ الديبلوماسيين الأميركيين بدأوا يهمسون عن وجوب إيجاد صيغة تسمح بالتعايش مع بقاء السلاح النووي الكوري الشمالي لأنّ نزعه لم يعد هدفاً واقعياً.
وفي دراسة أعدّها جيمس دونز (الديبلوماسي الأميركي العريق، والذي انتدبته بلاده لمهمّات صعبة مثل أفغانستان) لصالح مؤسسةRand Corporation المعتمدة الرسمية لوزارة الدّفاع الأميركية، إضافة الى وكالات أمنيّة أميركية، تطرق الى الملف الإيراني وهو الذي خبره، انّ من خلال عمله في وزارة الخارجية الأميركية، أو حتى من خلال مهامه الخاصة خصوصاً في أفغانستان.
ويقول دوبنز أنّه انطلاقاً من أمثولات الربيع العربي الذي شجّعته على طريقتها إدارة باراك أوباما، فإنّ النتائج كانت كارثية في ليبيا واليمن وسوريا وأدّت أيضاً الى اهتزاز الوضع في مصر وتونس ما يفرض على واشنطن التنبّه والتعامل انطلاقاً من الدروس التاريخية.
وتابع دوبنز في دراسته بأنّه اذا تمادى بعض مسؤولي الادارة الحالية في المسّ بنظام الملالي، فيجب عندها ان نكون مستعدين لرؤية قيادة جديدة في إيران يتزعمها قاسم سليماني الذي يحظى بشعبية كبيرة لتصبح القيادة الفعلية ومن دون تمويه في قبضة حرس الثورة الاسلامية.
وتساءل دوبنز في دراسته التي نشرها يوم الاثنين الماضي: هل فعلاً يتمّ الحفاظ على المصالح الاستراتيجية الأميركية بهذه الطريقة؟
وتابع: عندما كنت في الخدمة الفعلية كان مخضرمو الديبلوماسية الأميركية يحللون ويدرسون ليلاً نهاراً لاستنباط أفضل الطرق التي تؤدي لاستعادة إيران.
وحتى الآن فإنّ التقارير الجدية تتحدث عن أنّ الاحتجاجات الحاصلة في إيران هي أقلّ بكثير من تلك التي حصلت في ما عُرف بالثورة الخضراء عام 2009 عند إعادة انتخاب أحمدي نجاد رئيساً.
وختم دوبنز قائلاً انّه لا يجب أن ننسى انّ بعض الحالمين في واشنطن من الذين حللوا لسقوط الشاه عام 1978 اضطروا بعد سنتين لدعم الطاغية صدام حسين في حربه مع نظام الملالي.
وما لم يقله دوبنز اشار اليه ديبلوماسيون أميركيون من المحسوبين على الحزب الجمهوري حين اعتبروا انّ ايّ انفجار داخلي في ايران سيؤدّي الى زعزعة استقرار المنطقة من القوقاز الى آسيا الوسطى، ما يؤدي الى فقدان السيطرة وتهديد المصالح الاميركية الحيوية وايضاً تهديد روسيا. لذلك فانّ الحاجة الاستراتيجية لواشنطن هي في الحفاظ على الاستقرار الايراني لا بل اكثر باحترام نفوذ طهران ولو من خلال وضع ضوابط وتفاهمات لأنّ في ذلك مصلحة لواشنطن وموسكو على السواء.
وفي كل الاحوال يبدو انّ شيئا ما يتحرك في الكواليس بين طهران وواشنطن ولو بشكل غير مباشر. فسلطنة عمان باشرت وساطتها من خلال وزير الخارجية يوسف بن علوي، وحتى بعض الدول الاوروبية وفي طليعتها المانيا تدفع بهذا الاتجاه. ويتردد انّ مرحلة التحرك من خلف الستارة ستستمر حتى مطلع تشرين الثاني موعد الإعلان عن المرحلة الثانية من العقوبات الاميركية وايضاً موعد الانتخابات النصفية الاميركية، على ان تليها في حال نجحت مرحلة التواصل المباشر مع اشتراط إيران للبدء بذلك، عودة ترامب عن قراره بالانسحاب من الاتفاق النووي. وبانتظار ذلك لا بد من الحذر والقراءة بتأنٍّ.