هل كان الرئيس المكلف سعد الحريري ليأخذ وقته الى هذا الحد، لو لم تكن السعودية مستمرة في تحفظها على تشكيل الحكومة. ثمة أسباب منطقية تستدعي التوقف عندها، فلولاها لكان الحريري شكّل حكومته، أمس قبل اليوم، واليوم قبل الغد
يحاول الحريري القفز بين النقاط؛ يساير جنبلاط وجعجع، ليحصل على تنازلات منهما، وفي الشكل، كان يساير التيار الوطني الحر الى حدّ أنه كان موافقاً على إعطائه مع العهد 11 وزيراً (الثلث المعطل) بحسب مطّلعين عل مسار المفاوضات، لولا تدخل الرئيس نبيه بري ورفضه إعطاء الثلث المعطّل لأيّ مكوّن. يعرف الرئيس المكلف أن زمن التنازلات لا بد آت، حين يصبح للسعودية ولإيران مصلحة مشتركة في إيجاد أرضية توافق على تشكيل الحكومة في لبنان. لذا يحاول قدر استطاعته تحصيل أكبر عدد من المكاسب:
أولاً، لا يظهر بمظهر المعارض للسعودية أياً كان توجّهها بالنسبة الى الحكومة وتوقيت صدور مراسيم تشكيلها، وهو بذلك يراعي جعجع كحليف للسعودية ويقف الى جانب جنبلاط، ويفاوض في التفاصيل والحقائب والحصص، وكأن العقدة الحكومية داخلية بحت. وحين تحزم السعودية أمرها، تعود الأمور الى نصابها، فيكون قد أرضاها في توافقه مع حلفائها ومع من ترغب في أن تعزز موقعهم في التشكيلة الحكومية. يقدم الحريري عروضاً للقوات وجنبلاط، لا تتخطى السقف الذي رسمه لهما التيار الوطني الحر، أي أربع حقائب للقوات في الحد الأقصى، من دون سيادية، وحقيبتين لجنبلاط، أما الوزير الثالث فله فيه النصف. ولأن الاثنين مستمران في رفض عروض يعتبران أنها لا تأتي من الحريري ، تستمر الأمور في المراوحة. وفي وقت يرسل فيه الحريري رسائل إيجابية في اتجاه الرياض، بعودته الى سابق عهده معها، يرسل رسائل أيضاً متعددة الجوانب الى دول وعواصم ترعى وضعه دولياً، بأنه لا يزال ينتظر كلمة السر، لكنه لا يخفي حماسته لتسريع تأليف الحكومة، لأن وضعه لم يعد يحتمل هذه المراوحة.
اي افتراق جدي بين العهد ورئيس الحكومة سيرتد على الحكومة وكل الملفات
ثانياً، رغم كل الأجواء الضاغطة على الحريري من جانب العهد والتيار الوطني الحر، لا يبدو أن الحريري انقلب على التسوية الرئاسية في شكل كامل. مأخذ العهد عليه هو تمسّكه بعدم منح حصة سنيّة للنواب السنّة من خارج تيار المستقبل، إلا إذا أراد أن يعطيها غيره. لا يعني ذلك أن العهد غير ممتعض من أداء الحريري أو أن التيار الوطني الحر يغضّ النظر عن حركته البطيئة، إلا أن الطرفين يدركان أن الحريري باق رئيساً للحكومة، وأن لديه مصلحة في ألا يبدأ مسيرته الحكومية الثانية، مع العهد، بخلاف مع رئيس الجمهورية، لأن أي افتراق جدي سينعكس ليس على اداء الحكومة فحسب، بل على الملفات الاقتصادية والمالية التي للطرفين مصلحة فيها. والحريري مدرك بدوره أنه يحتاج إلى الحكومة أكثر من أي وقت مضى، رغم أن قبوله بأحد عشر وزيراً للتيار والعهد قوبل برفض داخلي من بعض من حوله، لأنه بذلك يعبّد الطريق أمام الوزير جبران باسيل مرشحاً رئاسياً مطلق الصلاحيات. وحُذّر كذلك من مغبة استسهال تقديم تنازلات للتيار الحر، خصوصاً بعدما ارتاح شارعه السنّي لعودته الى أجواء تنسيقه مع القوات وجنبلاط والسعودية. لكن مقابل ذلك فإن الحريري يحاول إقامة توازن بين الضغوط السعودية ومصلحته في البقاء الى جانب العهد، إذ إنه يحتاج الى الحكومة، بقدر حاجة العهد إليها. فمعركته الحقيقية تبدأ بالملفات الاقتصادية والكهربائية والنفطية والمالية والمؤتمرات الدولية، وهو بصفته ممثلاً لطائفة في رئاسة الحكومة، فإنه يدرك أن المكاسب التي ستنتج عن هذه الملفات ستكون حصصاً موزعة مذهبياً وطائفياً بقدر ما توزع سياسياً. لذلك يستنفد كل وقته من أجل ألا يدمر الصلات التي عقدها منذ التسوية، لأن الحاجة الى تعويم نفسه بكل المعايير السياسية والاقتصادية باتت ملحّة. والمفارقة في كل ما يجري لدى الحريري أن المجتمع الدولي يتعاطى مع هذه المرحلة لتأمين استمرارية الحريري رئيساً للحكومة من الزاوية السياسية، من دون ضغوط داخلية عليه، فلا يعزل أو يطوّق، لكن الحريري يحبس نفسه في معادلة باتت واضحة لمن يعرفه: التقاء المصالح الاقتصادية والمالية مع مصالح العهد والقوى السياسية الاساسية فوق كل اعتبار، ولولا السعودية لكان شكل حكومته الثانية، في عهد عون، اليوم وليس غداً.