كتبت راجانا حمية في “الاخبار”:
لم يعد الحج «أياماً معدودات» بل استحال «طبقات» مع التحوّل في نوعية الخدمات التي صارت ملازمة لأداء الفريضة. بين حجّ «جبر الخواطر» الذي لا تتخطى كلفته 3 آلاف دولار وحج الـVIP الذي تلامس كلفته 15 الفاً، قليلون باتوا من يستطيعون «اليه سبيلاً»!
تعجّ قاعة المغادرين في مطار بيروت الدولي بقاصدي مكّة المكرمة لأداء مناسك الحج. حجّاج بأثواب بيض، لا يميز بعضها عن بعض سوى «فولارات» تحمل اسم «الحملة».
هذا الأسبوع هو وقت الذروة، إذ يشهد تسيير الدفعات الأخيرة ضمن موسم الحج لهذا العام. ومع أفوله، يهدأ صخب الحجيج، وتعود صالات المطار إلى حركتها المعتادة، بعد أن ينتهي الفصل الأخير من «الموسم» الذي بدأ قبل ثمانية أشهر. فترة كان محورها عروضات حملات الحج وإعلاناتها التي لم تترك لوحة فارغة على الطرقات ولا شاشة تلفزيونية، في تنافس على «تقديم الأفضل»، من «نوعية» الثوب الأبيض إلى رفاهية الفنادق والخيم «المكيّفة» وخدمات «البوفيه» المفتوح والتسهيلات الأخرى التي تحتسب بـ«عدد النجوم». فحملة النجوم الخمس، مثلاً، تعني خدمات «سوبر»، وإقامة «مطلّة على الحرم المكي»، فيما حملات النجوم الأربع قد تعني، مثلاً، إقامة في منطقة العزيزية التي تبعد بالباص ربع ساعة عن الحرم. ما بين خدمات النجوم الثلاث والأربع والخمس أسعار تفصلك عن الحرم أو تجعلك «connected» إليه. هذه المعادلة هي ما صار عليها الحج اليوم. حج «كلاس» مع نجوم خمس وحج «جبر الخواطر». وما بين هذا وذاك أسعار تتأرجح بين 2500 دولار لأصحاب الطبقة الدنيا و15 ألف دولار لحجّاج الـ«VIP».
استفحلت الطبقية في الشعيرة التي تقوم أساساً على أن كل الناس «سواسية» في «بيت الله الحرام». ليس كل الحجاج متشابهين. شيئاً فشيئاً، يتخفّف هذا الموسم من الزهد الذي تفترضه الشعيرة، ويغلب عليه الـ«بريستيج». شقّ الخدمات التي تقدّمها الحملات للحجاج ـــ الزبائن بات يستحوذ على الجزء الأكبر من الجهد الذي يقوم به صاحب الحملة. هكذا، صارت تقاس الأمور: ما تقدّمه من خدمات هو ما يجلب لك من حجاج مفترضين. يتّكل أصحاب الحملات على هذا الأمر. فهذا موسم يأتي مرة كل عام، ومن «الواجب الاهتمام به لنقدّم الخدمة الأفضل ونربح في الوقت نفسه»، يقول صاحب إحدى الحملات، مشيراً الى أن المعادلة هي أن «كل ربحٍ يقلّ عن 500 دولار عن كل حاج هو جريمة»!
وبما أن التعويل على الموسم كبير، يطمح أصحاب الحملات إلى تقديم «الأفضل». وبالتالي، ترتفع الأسعار تدريجياً كلما كانت «الخدمة نوعية». وعلى هذا الأساس، يضع صاحب إحدى الحملات معدلاً وسطياً لسعر الخدمة يبدأ من 3 آلاف دولار لتصل إلى نحو 15 ألفاً. ما دون ذلك هو «دمار» و«شنشطة» للحجاج، يقول العامل في «الكار» منذ 30 عاماً. ويوضح أنّ «موضوع الحج حسّاس جداً، وكلما تراجعت الأسعار تبهدلت العالم، وغالباً بأقل من هذه الأسعار لا رفاهية في السكن والأكل». في هذه الحالة، يتّكئ صاحب الحملة على «العاطفة». عاطفة الذاهبين إلى مكة ولهفتهم، لأنه «في المرة الأولى، ما بيشوف الحاج السكن ولا الأكل ولا التعب، المهم يحجّ».
الخدمة المقبولة، بحسب أصحاب الباع الطويل في «الكار»، تبدأ من 3300 الى 3500 دولار. وهي تتضمن خدمات المناسك من سكن في مكة والمدينة وإقامة في خيم عرفة وفي مِنى والمأكل والمشرب. يقول صاحب إحدى الحملات: «بهذه الكلفة يمكن أن نستأجر مبنى بنظام فندقي يبعد مسافة نحو كيلومترين عن الحرم المكي، إضافة إلى بوفيه مفتوح ومواصلات خاصة لا علاقة لها بالمواصلات التي تؤمنها الدولة». هذا العام، استأجر صاحب الحملة مبنى مجهّزاً بكلفة «500 دولار أميركي للسرير الواحد (1870 ريالا سعودياً)، وفي الغالب تضم الغرفة 4 أسرة ومجهزة بخدمات فندقية وحمام وباصين لنقل الركاب». وكلما زادت الخدمات زادت الأسعار. ففي أحيان كثيرة يطلب الحاج ــــ الزبون «ألا يكون معه في الغرفة سوى شخص واحد». عند ذلك، يقسم مبلغ «الأربعة أشخاص على شخصين»، وهنا، ترتفع الكلفة إلى حدود 5700 دولار. كما في مكة والمدينة، كذلك في جبل عرفه، كلما زادت الـ«quality» في الخيم، كلما ارتفع السعر؛ فالخيمة «المكيّفة» التي تضمّ أسرّة وطعاماً بنظام فندقي ليست بسعر الخيمة «التي تتضمن مراوح». الفارق على «الفرشة الواحدة» يتخطى 200 دولار.
ليست الـ5700 دولار آخر المطاف، فثمة أسعار تلامس 15 ألفاً تفرضها طلبات الحجاج «البورجوازيين» الباحثين عن الرفاهية من جهة و«طمع» أصحاب الحملات في تحصيل الربح في الموسم اليتيم من جهة أخرى. تحت هذا العنوان، ستجد حاجّاً مستعداً لدفع 15 ألف دولار أميركي بدل «رفاهية»، تؤمنها الحملة له، مثل «العبور بصالون الشرف، لأن ما بدو يفوت بالعجقة»، أو أن «تستقبله سيارة خاصة من باب الطائرة»، أو الإقامة في «فندق براند متل الموفمبيك أو الماريوت» مع غرفة بحمامين تكون «facing» الحرم. وهناك من يطلب غرفة «connected على الحرم لأداء الصلاة في الغرفة من دون النزول بين الناس». ثمة نماذج كثيرة لما بات عليه موسم الحج الذي استحال «لمن استطاع إليه سبيلاً»… و«كتّر». تحوّل الحجّ إلى ترف لا يحصّله سوى المقتدرين مادياً. أما من لا يستطيعون، فما عليهم الا انتظار «المكرمات».