كتب وسام أبو حرفوش في صحيفة “الراي” الكويتية:
لم يَعُدْ من مَكانٍ على كتفِه لـ «النجوم» بعدما احتلّ كل المواقع… صحيحٌ أن هذا السبعيني خَدَمَ عسكريّتَه في ميادين الشقاء اللبناني والعربي بعناءٍ وعنادٍ، لكنّه لن يُديرَ ظَهْرَهُ وهو المسكونُ بهُمومِ وطنيْه الصغير كما الكبير منذ صرْختِه الأولى العام 1967 «لا، لا، لا» ضدّ الهزيمة، وحتى آخِر صيْحاته الآن «كفى، كفى، كفى» ضدّ الهذيانِ اللبناني، وكأن لسان حاله أنه «باقٍ، باقٍ، باقٍ» في قلب المَخاض. فعزوفُه عن الترشّح للانتخابات النيابية لم يكن يعني انسحابَه من الحياة السياسية اللبنانية والعربية، رغم أن صناديق اقتراع مايو 2018 أريدَ لها أن تكون مُكَمِّلَةً لصناديق الرصاص في مايو 2008 في إقصائه.
إنه فؤاد السنيورة الذي لا يَحْتَمِلُ اسمه الرمادية أو الـ بين بين. فالذين اخْتبروه، إما معه قلباً وقالباً إلى أبعد الحدود، وإما ضدّه إلى ما بعد بعد الكراهية، ربما لأنه يميّز بين المساوماتِ التي يُعانِدُها والتسويات التي يَجْنَحُ إليها، ولأنه مُتَّهَمٌ بالصلابةِ كعارِفٍ لا تَنْطلي عليه الخزعْبلات، ولأنه لا يرفّ له جفنٌ كواحدٍ من أكثر المرشّحين وعلى الدوام لدخولِ كتاب «غينيس» ممّن تَعَرّضوا لأَعْنَفِ حملات التشهير والتهويل والتشويه والتهديد، ولم يكن أقلّها فظاظةً محاصرته في السرايا الحكومية على مدى 18 شهراً يوم كان رئيساً لمجلس الوزراء اللبناني.
غالباً ما يكون أوّل الكلام في أيّ جلسةٍ مع الرئيس السنيورة «تأكيده المؤكد». فهو يحرص على التذكير بأنه يوم أَعلن عزوفَه عن المشاركة في السباق الانتخابي، قال في السطر عيْنه إنه سيستمرّ ناشطاً في الشؤون الوطنية والاجتماعية التي تعني لبنان، وأيضاً في حَمْل قضية الإصلاح والنهوض والدفاع عن استعادة الدولة لدورها وسلْطتها وهيْبتها. أما آخِر الكلام، وهو الأقرب ما يكون لـ«الخرطوشة الأخيرة»، فدعوةٌ للتمسّك بالدستور واتفاق الطائف والقانون، هذا الثالوثُ من البديهاتِ المُفْتَرَضَة التي من شأن الاحتكام إليها إعادةُ انتظامِ الحياة العامة.
لا يتردّد السنيورة، الذي أَحْبَطَ بحفاظه على «العهْد والوعْد» كل الهمْس الصاخب عن علاقته الملتبسة بزعيم «تيار المستقبل» ورئيس الحكومتيْن (المستقيلة والعتيدة) سعد الحريري، في تثبيتِ موقفه يومَ رَفَضَ انتخابَ زعيم «التيار الوطني الحر» العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية وامْتَنَعَ عن التصويت لمصلحته، رغم تسويةِ «المخاطرة الكبرى» التي أَبْرَمَها الحريري وقضتْ بمجيء عون لفكّ أَسْر الدولة، وكأنّ في التجربة الرئاسية عشيةَ دخولِها العام الثالث ما يُشْعِر السنيورة بصوابيةِ قراره و«أسبابه الموجبة»، انطلاقاً مما حلّ بالبلاد والعباد.
ليست القهوة المُرّة وحدها المُرّة على الطاولة في الجَلسة مع «دولته»، فهو رغم دعوته إثر خروجه من البرلمان يوم انتخاب عون (الذي لم ينتخبه)، إلى التعاون مع رئيس الجمهورية الجديد كما تقتضي التقاليد الديموقراطية، فإنه على تحفّظاته حيال نظرية «المسيحي القوي» وما يعتورها على المستوييْن المؤسساتي والوطني، والموقف الدفين لبعض مَن هم في السلطة من اتفاق الطائف ومحاولة التملّص منه والإيمان بحلْف الأقليات وما يعنيه من دلالاتٍ وخيارات تُناقِضُ روحَ التجربةِ اللبنانية في العيش المشترك في ظلال سيادة الدولة.
ثمة خطأٌ ارْتَكَبَه المسيحيون عندما اعتبروا رئاسةَ الجمهورية شأناً مسيحياً، في رأي السنيورة، الذي أعلن من البطريركية المارونية يوماً معارضةَ هذا التوجه الذي حَرَفَ الأمور عن المسار الطبيعي، وقادَ تالياً إلى التيْه في المنزلقات. فطاولةُ الحوار الوطني كانت في تحديدها لمواصفاتِ الرئيس رسمتْ معادلةً من حديْن: أن يكون من الأكثر تمثيلاً في طائفته وأن يكون مقبولاً من الطوائف الأخرى، وهذا يعني أن الرئيس يُفترض أن يكون حاضناً لجميع اللبنانيين لا قوياً عليهم وبعضلاتِ سواه ويُمْعِنُ في تحويل الدولة والوزارات والإدارات مقاطعاتٍ فئوية.
ربما لم يكن الرئيس السنيورة يَنتظر ما هو مغايرٌ لما أَظْهَرَتْه حتى الآن تجربة بعض مَن هم في السلطة. المسألةُ بسيطةٌ في نظره، فالإنسان يشبه العملةَ التي تساوي قيمتَها الشرائية، والمرء يساوي قيمتَه الوطنية وقوّتها، وتالياً لا بدّ من إعادة الاعتبار إلى المؤسسات وسهرها على التقيّد بالدستور والالتزام بالقوانين، لإحداث صدمةٍ إيجابية تتيح معاودة إطلاق ورشة إصلاحٍ صارتْ أكثر إيلاماً في ضوء تَعاظُم مَظاهر الأزمات وتماديها، إذ لم يعد في إمكان هذه السيارة التي تزداد تَرَهُّلاً أن تجرّ تلك المقطورة الثقيلة الوطأة.
«فؤاد بيعرف كل برْغي في الجمهورية»، قالها يوماً أحد السياسيين في معرض إبرازِ دراية السنيورة بأحوال الدولة التي تزداد سوءاً. وها هو يكاد أن يَخْرج عن طوره في رسْم مآلات أزمة النفايات وسورياليّتها، على سبيل المثال… لقد دَفَعوا الناس إلى الجنون في تسليمهم بوجود مكبّاتٍ عشوائية تحت شرفاتهم وأنوفهم بعدما جرى دفْعهم إلى رفْض المَطامر الصحية التي لا بدّ منها حتى اعتماد المَحارق. وهكذا دواليك عن أزماتٍ لا تُعَدّ ولا تُحصى بسبب العقلية التي تدار بها الأمور من صغيرها الى كبيرها.
يَسأل السنيورة، الذي يُفاخِر بأنه عمل على احترام مبادئ الكفاية والإنجاز في إدارات الدولة وسعى إلى التدرّج في مسار إنهاء الطابع الزبائني في العلاقة بين السياسيين والدولة والحدّ من استتباعها للأحزاب، كيف يحقّ لهذا أو ذاك القول إن هذه الوزارة لي وإن هذا المدير العام من حصّتي؟ بأيّ منطقٍ يَجري اقتطاعُ الدولة وتحويلها غنائم؟ وأيّ دستورٍ يتحدّث عن حصة ِرئيسِ الجمهورية من الوزراء في الحكومة؟ أيّ أملٍ سيبقى للمواطنين وأيّ مستقبل نَصونُه لأبنائنا؟
وزير مالية العشرة أعوام (من 1992 الى 1998 و2000 الى 2004) ورئيس حكومة الأربعة أعوام (2005 – 2009) يَقرع ناقوسَ الخطر، وكسواه، من مآل الأزمة الاقتصادية – المالية. فهو لم يتعوّد «تهبيط الحيطان»، لكنه يلفت إلى ما يجري في دولٍ إقليمية محوريّة كإيران وتركيا ويحذّر من أن «أمامنا كمبيالات يقترب استحقاقُها»، وهو يعني ما يقول باستخدامه تعبير «الكمبيالات» في لحظةِ بلوغ الواقع الاقتصادي – المالي مرحلةً بالغة الدقة.
عندما تبدو الصورةُ قاتمةً ومأسويةً وكأن الأمور تنزلقُ نحو الأفق المسدود، يستعيد السنيورة نبرةَ رجلِ الدولة ويستعين بالمتنبي القائل «أبَداً أقْطَعُ البِلادَ وَنَجْمي، في نُحُوسٍ وَهِمّتي في سُعُودِ»، أي أينما أذهب أرى ما يبعث على اليأس والإحباط والنحس ولكن همّتي وعزيمتي وإرادتي تبقى عالية علوّ نجمٍ في السماء اسمه سعود… ومن ثم يعود إلى ثلاثيّته الذهبية: الدستور والطائف والقانون.
لا يتحدّث السنيورة أمام زوّاره، وبالمباشر عن تشكيل الحكومة وأزمة تأليفها، لكنه ومع عودة الكلام عن الحاجةِ إلى تطبيع العلاقة مع النظامِ السوري وإرساء «علاقةٍ دافئةٍ»، يستذكر الأيام السود حين بكّر النظام السوري في إرسال «داعش» بقيادة شاكر العبسي إلى مخيم نهر البارد لإقامة إمارةٍ في شمال لبنان، وكان اسمُها الحرَكي «فتح الإسلام» وكيف حاولتْ حمايتَها الخطوطُ الحمر قبل أن تَتّخذ «حكومتنا آنذاك القرار الجريء بالقضاء عليها».
لن تستقيمَ الأوضاع في البلاد إلا بالعودة أقلّه إلى بعض ما جاء في خطاب القَسَم للرئيس عون لجهة الالتزام بوثيقة الوفاق الوطني والنأي بالنفس ودور الجيش… وفي أكثر الأزمات إيلاماً يومَ استقالة الرئيس سعد الحريري من الرياض، يذكّر السنيورة بأنّه حين خَرَجَ من لقائه مع عون كرّر ما قاله لرئيس الجمهورية من «ان عودة الحريري الأولوية اليوم، ويجب علينا التنبه إلى الخلل الذي يعانيه لبنان، وعلينا احترام الدستور والطائف وإنهاء هذه الحالة التي وَصَلْنا إليها».
ورغم هذه «النقمة» في مزاج الرجل الذي يفاجئك بأبياتٍ من الشعر القديم «كلما اقتضتْ الحاجة»، فإنه ربما يشعر في هذه اللحظة بالذات بـ«رضى داخلي»، فالمُفاوض المُثابِر والبارع نَجَح في تحسين شروط بلاده عبر القرار 1701 لإنهاء الحرب بين إسرائيل و«حزب الله» في مثل هذه الأيام قبل 12 عاماً، كما نَجَحَ في صموده وصلابته في إخراج المحكمة الدولية في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري إلى دائرة الضوء، وهي التي تتهيأ لـ «النُطْق بالحكم» بدءاً من الشهر المقبل.