كتب جوزف طوق في صحيفة “الجمهورية”:
كان اللبنانيّ في بلده مستعدّاً لكلّ شيء، مستعدّاً لأيّ خبر وأيّ أزمة وحرب وانهيار الليرة والدولة والمؤسسات، كان اللبناني مستعدّاً لمزيد من الأمراض والتلوّث والويلات والمفاجآت… كنّا مستعدّين لأيّ خبر مأساويّ من أيّ جهة أتى، وما كانت فرقانة معنا… لكنّنا صراحة لم نعرف من أين جاءنا خبر دخول لبنان مجدّداً موسوعة غينيس للأرقام القياسية بأطول منقوشة في العالم، أيّ جاكيت سنعلّق عليها الأوسمة وعلى أيّ رفّ سنضع الكؤوس والنياشين والتبريكات؟
وكم يشبه هذا الإنجاز الفريد من نوعه في العالم، إنجازاً كنت قد حقّقته شخصيّاً في حياتي… فخلال الحرب الأهلية كنت أتعلّم في مدرسة الفرير الجمّيزة، وكانت المدرسة على رغم الرصاص والقصف والقنص، بفعل تواجدها بالقرب من خطوط التماس، تحوي عدداً هائلاً من الصفوف، وكان كلّ صفّ يستوعب ما لا يقلّ عن 32 تلميذاً، وكنت واحداً من هؤلاء… ولكن هذه ليست الخبريّة، لأنّ المهمّ بين هذه المعلومات أنّني كنت دائماً الطشّ في الصفّ، يعني في أفضل الأحوال، وعندما كانت تناسبني المسابقات والتسميعات أو عندما يمرض الذي سبقني، كنت أحتلّ أحد المركزين 29 أو 28. لكن صدقوني، هذه النتائج لم تؤثّر أبداً على نفسيّتي ولم تخلق لدي عقداً، فقد كنت استمتع بهذه النتائج، واعتدت في نهاية المطاف على احتلال المراكز الأخيرة… لكن شاءت الصدف أن اشتعلت حرب التحرير واضطرّت عائلتي للهروب إلى الضيعة، ولأنّ العلم نور قرّرت الوالدة أن استكمل عامي الدراسي هناك، وهكذا كان.
لكن هناك، تبدّلت المعادلات وتغيّرت المراكز، وإذ بسحر ساحر وقدرة قادر استملكت المركزين الثالث والثاني في الصف، ولم أسمح لأحد بأخذهما… ولا يمكنكم تخيّل حجم فرح والدتي واحتفالها بإنجازاتي المدرسية، وكم طبخت لي وحضّرت لي حلويات وكاستر وجيلو، وأطلقت المفرقعات لاعتقادها بأنّ اللعنة التي لاحقتني في المدينة انكسرت على علو 1527 متراً عن سطح البحر، ووعدتني بألّا نعود إلى المدينة قبل أن أنهي سني الدراسة، لأنّها رأت أن مناخ الثلوج يناسب دماغي، ويطلق العنان لعبقريتي… والمعتّرة لم تعرف سرّ كلّ هذا النجاح، إلّا بعدما زارت مدير المدرسة واكتشفت أن ليس هناك سوى 3 تلاميذ في صفّي، وكنت لا أزال الطشّ وأن لا علاقة للضغط الجوّي بمستوى ذكائي، فرضيت بما قسمه الله لها، وقالت لي حينها «بتضلّ تلاقي شي تشتغلو بس تكبر».
ربما تتساءلون ما علاقة أطول منقوشة بهذه القصّة، لكن هل كنتم تتوقّعون أن تنافسنا ولاية نيويورك مثلاً على أطول منقوشة، أو أن يبدأ سكّان بورتوفينو بقطب الزوبع تحضيراً لتشميسه وخلطه مع السمسم والسماق من أجل كسر رقمنا العام القادم… أو كنتم تتوقعون كلمة متلفزة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين يحثّ فيها شعبه على شدّ همته لانتشال الإنجاز من الشعب اللبناني. هناك منقوشة زعتر في لبنان وليس في أيّ مكان آخر في الدنيا، وحتى لو كان هناك فرن مناقيش في سيدني أو ساو باولو، فبالتأكيد صاحبه لبنانيّ حتى لو كان لا يتكلّم لهجتنا، يهمّه أن يرث الزعتر أكثر من وراثة اللهجة.
الزعتر لبناني لدرجة أن اسمه بالفرنسي والانكليزي زعتر، وشعوب العالم معترفة بهذا الأمر لدرجة أنها استسلمت ولم تعد تبحث أصلاً عن ترجمة للكلمة.
كان الأفضل أن يكون عنوان الإنجاز أطول منقوشة زعتر في لبنان، تتنافس عليه بلدتي وطى الجوز ورشدبين مثلاً. وعندما نريد التفوّق على العالم دعونا نبحث عن أمور لديهم منها أو يهتمّون لأمرها، مثل بناء أكبر مركز معالجة نفايات في العالم، أو أكبر معمل لإنتاج كهرباء بطاقة الرياح أو المياه مثلاً، أطول مدّة في العالم من دون فساد، أنظف شاطئ في العالم، أكثر وزير قاتل حاله لخدمة الشعب، وأمور من هذا القبيل… لكن نحن اعتدنا أن نكون الطشّ بين الدول، ونبتكر الإنجازات حتى نشعر ببعض من الحياة.