كتب عماد مرمل في صحية “الجمهورية”:
تحولت موسكو الى وجهة سياسية لقوى لبنانية تنقسم حول ملفات حيوية، محلية وخارجية، لكنها تتفق جميعها على انّ موسكو باتت بحكم موازين القوى مرجعية دولية، وممراً إلزامياً للتسويات والضمانات، ولاستشراف المعادلات والاحتمالات. فخلال أيام قليلة ومتقاربة استقبلت العاصمة الروسية تباعاً كلّاً من النائب تيمور جنبلاط ومستشار رئيس الحكومة جورج شعبان والوزير طلال ارسلان فالوزير جبران باسيل، ما يؤشّر الى انّ الدور الروسي العابر للحدود بات يولي الساحة اللبنانية اهتماماً إضافياً، لاسيما انّ هذه الساحة تقع على تماس مع قضايا الاقليم عموماً، ومع الازمة السورية خصوصاً.
أسوأ ما في الامر انّ الشخصيات اللبنانية تزور موسكو وهي «مكشوفة» سياسياً، بفعل التعثر المتواصل في تشكيل الحكومة، وبالتالي استمرار تعطل مركز القرار، ما يخفف من فرص «تسييل» تلك الزيارات في المنحى الذي يخدم الدولة ككل، وليس هذه الجهة او تلك.
ويمكن القول انّ ملف النازحين السوريين يشكل احدى ابرز الاولويات المشتركة بين موسكو وبيروت، انطلاقاً من قدرة القيادة الروسية على المساهمة المحورية في تأمين الظروف المناسبة لعودة عدد كبير من هؤلاء النازحين.
والوضع الدرزي في السويداء، بكل أبعاده وتفاعلاته، يستحوذ ايضا على اهتمام الروس، في اعتباره جزءاً حيوياً من المشهد السوري الذي تحضر موسكو في قلبه. وليس خافياً انّ هجوم «داعش» الارهابي ضد المنطقة أخيراً خلّف موجة من التداعيات والهزّات الارتدادية التي وصلت تأثيراتها الى الجبل اللبناني وساهمت في تعميق الخلاف بين وليد جنبلاط وطلال ارسلان.
بل انّ موسكو نفسها لم تنج من الشظايا السياسية اللبنانية بعدما استهدفتها سهام جنبلاط في لحظة انفعال، قبل ان يطير تيمور الى بلاد القيصر لترميم ما تَصدّع ومناقشة واقع الدروز في سوريا.
وهناك من يعتقد انّ الروس الذين استقبلوا الثنائية الدرزية في لبنان، بفارق ايام معدودة، يمكن ان يؤدّوا دوراً في رأب صدعها، بل ان البعض ذهب في استنتاجاته الى الافتراض بأنّ موسكو تستطيع ايضاً المساهمة في معالجة «العقدة الدرزية» التي تشكل احدى العقبات الاساسية امام ولادة الحكومة، بينما يستبعد آخرون انزلاق روسيا الى الرمال المتحركة للتفاصيل اللبنانية التي سبق أن غرقت فيها عواصم اقليمية ودولية، وخرجت منها «مترنّحة».
إستعجال الحكومة
ولكن ما هي حقيقة السياسات الروسية في هذه المرحلة على المستويين اللبناني والاقليمي؟
تفيد المعلومات المتوافرة لدى عائدين من موسكو انّ الروس يستعجلون تشكيل حكومة وحدة وطنية في لبنان، تضمّ كل الاطراف ولا تقصي أحداً، ويدعون الى الاسراع في تشكيلها لأنّ الوضع العام في لبنان والوضع الاقتصادي خصوصاً يحُتّمان إتمام ولادتها في أقرب وقت ممكن للنهوض بالبلد على كل الصعد.
أولوية النازحين
امّا بالنسبة الى قضية عودة النازحين السوريين، فإنّ العائدين من موسكو يؤكدون انّ القيادة الروسية تعتبر انّ معالجة هذه القضية تشكل اولوية أساسية لها، ناقلين عنها تشديدها على ضرورة ان تتم عودة النازحين من لبنان بالتنسيق مع الدولة السورية، على أعلى المستويات، وتحديداً على مستوى الحكومتين او حتى الرئاستين إذا اقتضى الامر.
وتفيد معلومات زوّار موسكو بأنّ هناك اتجاهاً لتشكيل لجنة امنية تضم كلّاً من اللواء علي مملوك واللواء عباس ابراهيم والملحق العسكري في السفارة الروسية في بيروت، لتنظيم العودة وتأمين متطلباتها الضرروية. والأرجح انّ الروس سيبلغون وزير الخارجية السعودي عادل الجبير لدى استقبالهم له قريباً بضرورة الانفتاح اللبناني على دمشق، في وقت تردّد انهم يسعون ايضاً الى تضييق الهوة بين السعودية وسوريا.
ويشير الزوار الى انّ الروس مهتمون بأن يهيّئوا مع الجانب السوري ضمانات العودة الى المناطق الآمنة، خصوصاً دمشق وحلب وحمص مع أريافها، حيث باتت البنى التحتية جاهزة. وبالتالي، فإنّ ما يمكن استنتاجه، تبعاً للزوار، هو انّ قرار موسكو بمعالجة ازمة النازحين هو حاسم ونهائي.
نصيحة لجنبلاط
وفي ما خصّ العلاقة مع جنبلاط، يكشف العائدون من موسكو انّ جنبلاط أبلغ اليها إيضاحات تنطوي على نوع من التراجع عن المواقف والاتهامات الحادة التي سبق ان أطلقها ضد القيادة الروسية، عقب المجزرة التي ارتكبها تنظيم «داعش» الارهابي بحق أهالي السويداء.
ويبدو انّ المسؤولين الروس نصحوا جنبلاط بأن يقارب واقع الدروز في جبل العرب من زاوية الاستفادة من الدرس الكردي، وفحواه «انّ الاكراد جاؤونا طالبين مَدّهم بالسلاح، فلمّا سألناهم ماذا ستفعلون به، أجابونا انهم سيقاتلون به «داعش»، فقلنا لهم إننا نعطي السلاح الى الدولة السورية وبإمكانهم ان يأخذوا منها ما يحتاجونه وان يقاتلوا الارهاب تحت مظلتها، إلّا انهم رفضوا وذهبوا الى الاميركيين الذين سرعان ما تَخلّوا عنهم وتركوهم لوحدهم في مواجهة الاتراك و»داعش»، وها هم اليوم عادوا لفتح الخطوط معنا ومع بشار الاسد».
وترى موسكو انّ هذه التجربة الكردية لا يجب ان يكررها دروز جبل العرب، وهي أبلغت الى من يعنيه الامر انّ هناك تواصلاً مباشراً بينها وبين مرجعياتهم وفعالياتهم «الذين أكدوا لنا تمسكهم بالولاء للدولة السورية، وإصرارهم على ان يبقوا جزءاً منها».
«إحتضان» ارسلان
وفيما كانت لافتة الحفاوة التي واكبت لقاءات الوزير طلال ارسلان في روسيا، الى درجة تخصيصه بامتياز زيارة وزارة الدفاع والاجتماع الى كبار جنرالاتها، يعتقد العائدون من بلاد القيصر انّ هذه «الحرارة» تنطوي في جانب منها على رسالة ضمنية الى جنبلاط بأنّ «المير» يمثّل حيثية معينة ولا يمكن شطبه من المعادلة.
وتجدر الاشارة الى انّ ارسلان شدّد، خلال اجتماعاته مع الروس، على انّ العقد التي تؤخّر تشكيل الحكومة هي داخلية في الشكل، لكنها سعودية في المضمون، داعياً إيّاهم الى مساعدة اللبنانيين في بناء دولة قوية وقادرة. كما أشاد ارسلان أمام مضيفيه بدور المقاومة في تحرير الجنوب ومواجهة الارهاب، معتبراً انّ هناك مقومات قوة في لبنان، الّا انّ «المشكلة تكمن في وجود أطراف تراهن على الخارج، وتغلّب مصالحه على المصلحة الوطنية العليا».
مهلة لتركيا
وفي سياق متصل، يشير العائدون من موسكو الى انّ هناك تفويضاً لها، بعد قمة هلسنكي، بالاشراف على الوضع السوري، مؤكدين انّ نشر القوات الدولية والجيش السوري على الحدود مع الجولان وصولاً الى الحدود الاردنية هو حصيلة جهد تفاوضي قام به الروس مع واشنطن وتل ابيب وطهران وأنقرة، وبالتالي ليس صحيحاً انّ هناك خلافاً روسياً – ايرانياً في هذا الصدد.
ويعكس زوّار موسكو ارتياح القيادة الروسية الى مسار الوضع في سوريا، لافتين الى انها مصمّمة على ان يعيد الجيش السوري بسط سيطرته على كل الجغرافيا السورية، إنطلاقاً من تمسّكها بمبدأ وحدة الارض والدولة.
ويكشف هؤلاء انّ هناك مهلة أعطيت لتركيا، لا تتجاوز سقف الشهر الواحد، لمعالجة مسألة ادلب بالتي هي أحسن، فإذا أخفقت المفاوضات في تحقيق النتائج المتوخّاة، سيُشن هجوم عسكري شامل على ادلب لحسم الموقف عسكرياً.
وينقل الزوار عن المسؤولين الروس تصنيفهم تركيا في خانة «الشريك الصعب» وتذمّرهم من محاولة أنقرة «تَتريك» شمال سوريا، من خلال إدخال المناهج التربوية التركية الى المدارس والجامعات هناك، وإعطاء جنسيات تركية للسوريين في تلك المنطقة ونقل المصانع التي سُرقت من حلب الى إدلب.