كتب بروفسور جاسم عجاقة في صحيفة “الجمهورية”:
لا خوف على الليرة اللبنانية، هذا ما يؤكده حاكم مصرف لبنان على الرغم من إرتفاع الفوائد والتعقيدات التي تواجه تشكيل الحكومة. وتختلف التحليلات حول الوضع النقدي في لبنان على الرغم من أن الليرة اللبنانية ثابتة منذ 23 سنة على سعر 1507.5، حيث يذهب البعض إلى التشكيك في السياسة النقدية المُتّبعة. فماذا تقول النظرية الإقتصادية؟ وهل هذا التشكيك مُبرّر؟
في نسختها البدائية في القرن السادس عشر، تنصّ النظرية الإقتصادية (Quantity Theory of Money) من خلال معادلة فيشر على أن العلاقة بين العرض النقدي (أي مخزون المال الموجود في الاقتصاد)، سرعة تداول العملة، المؤشر العام للأسعار والحجم الإجمالي للمعاملات التي تتم خلال فترة مُعيّنة، مُرتبطة في ما بينها بمعادلة حسابية (سرعة تداول العمّلة x عرض النقد = مؤشّر الأسعار x الفترة الزمنية). ومن الأسئلة الأساسية التي شكّلت نقاشا بين مُختلف المدارس الإقتصادية، هي معرفة إذا ما كانت زيادة العرض النقدي لها تأثير فعلي على النشاط الإقتصادي أو أنها ببساطة تخلقّ تضخّما.
مُعالجة بسيطة لهذه المعادلة تسمح بفهم توجّهات المدارس الإقتصادية في ما يخصّ العلاقة بين النقد والتضخّم. فتحويل هذه المُعادلة إلى نسب تُعطي المُعادلة التالية: الزيادة في العرض النقدي = الزيادة في مؤشّر الأسعار + زيادة المدخول الحقيقي – الزيادة في سرعة تداول العمّلة. وبفرضية أن سرعة تداول العمّلة هي ثابتة (هذه الفرضية صحيحة بحكم أنها لا تتغيّر في وقت قصير)، تُصبحّ هذه المُعادلة كالتالي: الزيادة في الأسعار = الزيادة في العرض النقدي – زيادة المدخول الحقيقي. مما يعني أن التضخّم هو عبارة عن زيادة في الكتلة النقدية أكبر من الزيادة في الإنتاج!
بحسب النظرية الكلاسيكية، لا تأثير للعرض النقدي على النشاط الحقيقي للإقتصاد وبالتالي فإن الزيادة في العرض النقدي يُترّجم بإرتفاع في الأسعار بنفس النسبة. ولتبرير هذا الأمر، تُعطي النظرية الكلاسيكية المثال التالي: لنفترض أن المصرف المركزي رفع العرض النقدي (الكتلة النقدية) إلى الضعف، فإن التداعيات ستكون مُضاعفة الأسعار، مضاعفة الأجور ولكن لا تغيير مُطلقًا للنشاط الإقتصادي. مما يعني أن التأثير هو إسمي من خلال الأسعار ولكن ليس فعّليا على النشاط الإقتصادي وهذا ما يُسمّى بثنائية البيئة المالية والإقتصادية.
في الواقع هناك فرضية ضمنية تمّ إستخدامها في هذا المثال دون شرحها. هذه الفرضية تنصّ على أن الأسعار والأجور تتغيّر بشكل فوري وهذا الأمر غير صحيح لأن هناك كلفة فعلية لهذا التغيير وبالتالي، هناك وقت قصير تكون فيه للزيادة في النقد تداعيات إيجابية على الإقتصاد. وتؤكّد نظرية الحياد النقدي أن لا تأثير للسياسات النقدية على الأمد البعيد على الإقتصاد في حال التوازن مع عدم إنكارها للتأثير على الأمد القصير.
بالنسبة إلى المدرسة الكينزية، فإن إرتفاع الكتلة النقدية يسمح بإنعاش الإقتصاد (على الأمد القصير)، في حال كانت الدورة الإقتصادية ضعيفة ويُبرّرون هذا الأمر من خلال القول أن الفائض في الكتلة النقدية يزيد من الإستهلاك (مبدأ المضاعف الكينزي)، وحافزًا للاستثمار في الشركات (مبدأ مسرِّع كينيز).
الواقع اللبناني
شبه الركود الذي يعيشه الإقتصاد اللبناني منذ العام 2013 دفع مصرف لبنان وحاكمه الذي يتبع المدرسة الكينزية إلى ضخّ أموال في الماكينة الإقتصادية على شكل رزم تحفيزية طالت الإستهلاك والإستثمار. وكميّة الضخ – أي حجم الزيادة في الكتلة النقدية – يُحتسب على أساس المعادلة الحسابية الآنفة الذكر (الزيادة في الأسعار = الزيادة في العرض النقدي – زيادة المدخول الحقيقي). وظلّ الإقتصاد ينمو على وتيرة 1 إلى 1.5% خلال هذه الفترة.
إلا أنه وفي آب من العام الماضي، قامت الدولة اللبنانية بإقرار سلسلة الرتب والرواتب تحت تأثير الضغط الشعبي وضاربة بعرض الحائط رأي مصرف لبنان في ما يخصّ تمويل السلسلة.
هذا الأمر خلق المُشكلة التالية:
تمّ الإتفاق على أن تموّل السلسلة من خلال الضرائب على النشاط الإقتصادي وخاصة من الضريبة على القيمة المُضافة. لكن برز لاحقًا عاملان أساسيان:
الأول زيادة في كلفة السلسلة، وثانيًا عدم قدرة السلّة الضربية على تمويل هذه الكلفة. من هذا المُنطلق، قامت الدولة بتمويل جزء من هذه السلسلة عبر إصدار سندات خزينة تمّ الإكتتاب بها من قبل المصارف بجزء كبير. والمعروف أن شراء سندات خزينة من قبل المصارف يعني أن هذه الأخيرة خلقت العمّلة (Monnaie Fiduciaire) لإقراض الدوّلة أي أن الزيادة في الكتلة النقدية أصبحت تفوق النمو الإقتصادي وبالتالي ترجمت هذه الزيادة بإرتفاع التضخمّ.
على صعيد آخر الزيادة في مدخول 275 ألف مُستفيد من سلسلة الرتب والرواتب تحوّل إلى إرتفاع في الطلب على السلع والتي بقسم كبير منها هي سلع مُستوّردة. لذا لم تُترجم هذه الزيادة بإرتفاع في الإنتاج في لبنان وتحوّلت هذه الزيادة في الطلب إلى إرتفاع في الأسعار – أي تضخّم.
أضف إلى ذلك أن أسعار النفط إرتفعت بشكل ملحوظ منذ إقرار السلسلة وحتى اليوم كنتيجة لتقليص الإنتاج من قبل الأوبك وروسيا والمشاكل التي تواجه كلاً من فنزويلا وليبيا وحديثًا إيران. هذا الأمر تُرجم بإرتفاع أسعار مُعظم السلع (أقلّه كلفة النقلّ) في لبنان كما تُثبته أرقام الإحصاء المركزي.
ماذا بعد؟
تداعيات زيادة الكتلة النقدية تُترجم ضغوطا على الليرة اللبنانية التي زادت كتلتها النقدية بسبب سلسلة الرتب والرواتب وبالتالي، يجب لجم الفائض في السيولة الذي أصبح مُضرًا للإقتصاد والنقد على حدٍ سواء. لجم هذا الفائض لا يُمكن إلا عبر إمتصاص السيولة بالليرة اللبنانية من خلال قناة تقليدية في السياسات النقدية، ألا وهي رفع الفائدة.
هذا هو السبب الأساسي الذي دفع المصارف إلى رفع الفائدة التي ستستمرّ على هذا النحو إلى حين تسجيل الإقتصاد اللبناني نسب نموّ أعلى من نسبة الزيادة في الكتلة النقدية (الزيادة في الأسعار = الزيادة في العرض النقدي – زيادة المدخول الحقيقي).
وهذا الأمر لا يُمكن تحقيقه إلا من خلال تشكيل الحكومة والعمل على تنفيذ المشاريع المنصوص عليها في مؤتمر سيدر 1 بالتزامن مع لجم العجز في الموازنة عملًا بإلتزامات الحكومة في المؤتمر. هذه النقطة الأخيرة ستلجم زيادة الكتلة النقدية الناتجة عن إصدار سندات خزينة وستسمح بإستخدام أموال المصارف في الإستثمارات مما يعني زيادة النمو الإقتصادي.
بالطبع ما تقدّم لا يعني بأي شكل من الأشكال أن هناك مخاطر على الليرة اللبنانية لسببين: الأول تقليدي وهو الإحتياط الهائل من العملات الأجنبية والذي يسمح لمصرف لبنان بالدفاع عن الليرة اللبنانية تحت أي ظرف من الظروف ولفترة زمنية غير محدودة. والثاني تقني ويعود إلى دولرة الإقتصاد أي أن ليرة بـ 1507.5 أو 3000 لن تُغيّر شيئا في الماكينة الإقتصادية. لذا فإن قرار مصرف لبنان وحاكمه في هذا الأمر جازم، لا تحرير ولا تخفيض لليرة اللبنانية مهما كانت الأسباب أو الظروف.