كتب ابراهيم الأمين في صحيفة “الأخبار”:
في مقاربة ملف العلاقات اللبنانية ـــــ السورية، يجدر تجاوز مواقف قوى سياسية أساسية في لبنان. المشكلة هنا أن التجاوز أو الاهمال، صار فعلاً ضرورياً في ضوء إصرار هذه القوى على أن تتصرف على خلفية مشتركة في ما بينها تجمع خليطاً من الحقد الخاص والعمى السياسي وقلة الاخلاق. وبالتالي، فإن من يفكر في إعادة بناء علاقات قوية بين لبنان وسوريا، عليه تجاهل مواقف كلاً من سعد الحريري ووليد جنبلاط وسمير جعجع.
يشترك هؤلاء الثلاثة ببعد شخصي في الموقف من سوريا. والموقف هنا لا يتعلق فقط بالحكم في سوريا، بل بسوريا عموماً، خصوصاً أن جنبلاط وجعجع يتصرفان بطريقة مجنونة إزاء فكرة جبل لبنان، أو دولة لبنان الصغير، بينما لا يفهم الحريري أنه رئيس حكومة لبنان الكبير، وهذا اللبنان الكبير ليس سوى جزء من سوريا. وسيظل كذلك مهما قيل ويقال ومهما جرى ويجري. حتى قبول بشار الاسد بافتتاح سفارة سورية في لبنان، واستقبال سفير لبناني في دمشق، سيبقى مجرد خطأ قابل للإصلاح متى حان الوقت.
كذلك فإن المشترك بين الثلاثي المذكور، أن جنبلاط لديه ثأر قديم مع كلّ من حَكَمَ سوريا، وخصوصاً حزب البعث وآل الاسد، أما جعجع، فهو شريك الاطراف التي تعتقد ـــــ والله اعلم من أين يأتيها الإلهام ـــــ بأن المسيحية بوصفها نمط تفكير وحياة، لا أساس لها في بلاد الشام. وهو ما يجعل محازبين له يظهرون الاستعداد لنفي الصلة بمار مارون إذا تبين أن هذا القديس أصله سوري!
اما الحريري، فمشكلته في اقتناعه ـــــ لا اعتقاده ـــــ بأن سوريا منعت والده من الحكم في لبنان، وأن سوريا مسؤولة عن قتله. لذلك لم يمنع الحريري نفسه من التورط في محور الشر الذي تقوده السعودية الى حدود الانخراط في خطوات سياسية واعلامية ومالية وتسليحية، في سياق ما يعتقد انه يخدم من خلاله «الشعب السوري الثائر». وعندما أصابت الهزيمة حلفاء الحريري في سوريا، بات يتصرف على أساس أنه مهزوم ايضاً. لكنه، لا يميّز الآن بين موقعه كرئيس تيار سياسي اخطأ التقدير مرات ومرات، وموقعه كرئيس لحكومة كل لبنان. وهذا أمر سيكون له انعكاسات سلبية على كل شيء.
وإذا كان ملف العلاقات بين لبنان وسوريا يشتمل على بنود حياتية ومصيرية كثيرة، فإن الداهم اليوم يتعلق بملف النازحين السوريين في لبنان، والذي لم يعد يقف عند حدود لبنان، خصوصاً أن الدول التي تورطت في الحرب على سوريا لن تتوقف عن مساعيها لإنهاك الشعب السوري أكثر، اعتقاداً منها أن ذلك يتسبّب في مزيد من الضغط على النظام في سوريا.
ماذا يُعدّ الغرب المتوحش للنازحين عندنا وعند غيرنا؟
وفق كل المؤشرات السياسية والميدانية، فإن استعادة الدولة السورية سيطرتها على كامل البلاد باتت في متناول اليد فعلاً. قضية إدلب قريبة من حل قد يفاجئ الجميع بنوعيته. والمفاوضات الجارية مع الأكراد، والتطورات على الحدود العراقية ـــــ السورية، تشي بقرب انسحاب أميركي ـــــ إلزامي ــــــ ما يفرض على القوى الكردية تسريع التفاوض مع الحكومة السورية، كما هو الحال بالنسبة إلى تركيا التي باتت تتصرف ـــــ وفق دبلوماسي عربي ـــــ على أساس أن استقرار سوريا يخدم مصلحتها، وأن تعاونها سيساعدها على ضمان أمنها في مواجهة ما تسميه «الخطر الكردي».
هذه الحصيلة تعني بالنسبة إلى أعداء سوريا شيئاً واحداً، وهو فشل مشروعهم. وبالتالي، فإن مسار الحياة سوف يفرض على الجميع الدخول في عملية تطبيع ولو تدريجية مع الحكومة السورية. كذلك فإن النازحين السوريين سيعودون الى بلادهم ولو على دفعات. لكن واقعهم اليوم حيث يعيشون، لن يشجع أحداً منهم على البقاء لاجئاً إلا من تيسّرت له فرصة حياة أفضل، وهو أمر سيكون من حظ فئة قليلة منهم.
هذا الانعدام في التوازن، جعل أعداء سوريا يدركون أن الحيلة الوحيدة التي يمكن أن يمسكوا بها هي ورقة النازحين السوريين، وهم يقولون علناً، إن تأخير عودة هؤلاء، يصبّ في خدمة مصلحتهم الهادفة الى إجبار النظام في سوريا على تقديم تنازلات في ميادين شتى. ولذلك، فإن العواصم الغربية مع عدد من الدول العربية الفاعلة، تنشط حالياً على خط عرقلة لا بل منع عودة النازحين من دول الجوار الى ديارهم، بالتعاون مع مجموعة من المعارضين السوريين الذين باتوا يعيشون على قهر إخوتهم، وأيضاً مع مجموعة من القوى والحكومات التي تتصرف وفق ما تمليه عليها الارادة الغربية. في لبنان، هؤلاء يمكن العثور عليهم في وجوه الحريري وجنبلاط وجعجع ومن يعادلهم.
فكرة الغرب، تقوم الان على اعتبار الوضع في سوريا «غير مناسب لعودة طوعية وآمنة للنازحين». وعندما يحصل نقاش حول معنى العودة الآمنة، يبدأ الحديث عن الصعوبات الاقتصادية والحياتية وآثار الحرب المباشرة، ثم ينتقل الحديث عن خطر تعرض النازحين للقمع والقهر من جانب السلطات السورية، وصولاً الى الحديث عن أن العودة اليوم ومن دون شروط، قد تشكل عاملاً معطلاً لبرنامج الضغط الغربي على النظام لإجراء تغييرات سياسية داخلية بالطريقة التي يشتهونها.
وفق هذه السياسة، يرى الغربيون أن من المفيد تعطيل العودة السريعة للنازحين. ويسعون الى تأجيل هذه العملية لسنوات عدة. ويتحدثون عن استمرار المفاوضات مع النظام ومع روسيا وإيران لفرض تعديلات على الدستور وعلى النظام السياسي في سوريا. ويصل الامر بالغربيين، الى حدّ القول إنه يجب بقاء النازحين خارج سوريا حتى إقرار انتخابات عامة، نيابية ورئاسية، وفق شروط دولية، على أمل مشاركة النازحين السوريين في هذه الانتخابات، حيث يقيمون، وكل ذلك، في ظل رهان غربي على أنه في هذه الحالة، سوف تتكون كتلة سورية كبيرة معارضة للنظام في سوريا. وسوف يتم منح هذه الاصوات وما تمثل،شرعية قائمة على مبدأ التمثيل الديموقراطي، وهو كلام يفضحه بعض المعارضين السوريين بالقول، إنه في حال توقف إطلاق النار، يجب المبادرة الى تنظيم أطر سياسية شعبية في الخارج على شاكلة حكومة او برلمان منفى. ويكفي أن يحصل ذلك، حتى يبادر أعداء سوريا النافذين في العالم، مطالبة العالم بالتصرف مع الحكومة السورية على أنها منتقصة الشرعية، أو أنها دولة تعيش تحت الاحتلال. وفي هذه الحالة، لا يمانع الغرب تسويق صفة النازح أو اللاجئ على كل سوري موجود خارج بلده، وبالتالي، أن يتم إلزام الدول المستضيفة لهؤلاء بالتعامل معهم بطريقة تشبه تعاملهم مع اللاجئين الفلسطينيين.
عملياً، يسعى الغرب الآن ليس الى منع استعادة الدولة كامل سيطرتها، بل منعها من ممارسة كامل سلطاتها، وسوف نسمع الكثير في القريب، عن حق جماعات سورية في الشمال ـــــ الشرقي ومناطق الحدود مع تركيا، في حكم ذاتي، وعن ضرورة احترام خصوصيات ذات طابع اثني وعرقي وديني وغير ذلك. وسوف يحاول الغرب فرض نظام علاقات يربط أي دعم لإعادة إعمار سوريا بتنازلات من قبل الحكومة هناك. وفي كل الاحوال، سيتم استخدام النازحين أداة لهذه الغاية. فكيف إذا كان أعداء سوريا، وكلهم من الاشرار، يفكرون ايضاً في استخدام آلاف المقاتلين السوريين الهاربين الى الخارج، في أعمال هدفها ليس تخريب سوريا فقط، بل تخريب ما أمكن من البلاد التي لا تسير في فلك الغرب المجرم.
إذا كان هناك قيادات لبنانية، على شاكلة الحريري وجنبلاط وجعجع، لا تأبه لكل الحسابات الوطنية الكبرى، فمن الخطأ على الآخرين، وخصوصاً الرئيس ميشال عون وحزب الله وحلفاءهما ترك الامور رهن توافق سياسي لن يحصل. وأن تتم المبادرة الى فرض أمر واقع يقوم على تواصل عام مفتوح مع القيادة السورية، يساعد على تجاوز كل العقبات، ويسرّع في عودة أكثر من مليون سوري الى بلادهم اليوم قبل الغد.
ليكن 14 آب السوري حقيقة قريبة، كما كان 14 آب اللبناني (2006) حقيقة أجهضت مشروعاً دولياً كبيراً للتآمر على المقاومة وسلاحها.