كتب عبد الوهاب بدرخان في صحيفة “الحياة”:
إشكالات كثيرة تحيط بالموقعة القتالية الأخيرة في الصراع السوري. إدلب هي المحافظة الوحيدة التي طُرد منها النظام بكلفة بشرية ومعنوية هائلة، إذاً تشكل استعادتها ثأراً بالنسبة إليه. إدلب كانت الهدف التالي الذي تأهّبت قوات النظام وحلفاؤها الإيرانيون وأتباعهم لاجتياحه أواخر 2016 غداة سقوط شرق حلب، غير أن الروس شاؤوا مساراً آخر للأحداث وما لبثوا أن غيّروا المعادلة لإدخال تركيا التي سهّلت لاحقاً استخدام هذه المحافظة مقرّاً لاستقبال المقاتلين المرحّلين من حلب وحمص وحماة ثم من القلمون والغوطة وأخيراً من درعا. إدلب هي المعقل الأخير الذي لا يزال يشار إليه كموقع لـ «المعارضة» بمفهوم عسكري – سياسي، فالمناطق الأخرى التي عاد إليها النظام بمعيّة الإيرانيين وأتباعهم إما أخليت من سكانها أو أن الظروف القاسية لمَن بقوا فيها لا تسمح لهم بممارسة أيٍّ من مظاهر الاحتجاج. وإدلب التي لم يزد سكانها عن مليون ونصف المليون إنسان باتت تؤوي الآن ما يقرب من أربعة ملايين تحت سيطرة مزيج من نحو مئة فصيل أو أكثر، متقاربة أو متنافرة وموزّعة بين «الجبهة الوطنية للتحرير» و «هيئة تحرير الشام/ جبهة النُصرة سابقاً»، إضافة إلى فصيل «حرّاس الدين» الذي انشقّ عن «النصرة» التي اعتبر أنها ابتعدت من أصولها «القاعدية».
في اجتماع «آستانة – سوتشي» الأخير، كانت إدلب المحور الأساسي، فهي منطقة «خفض التصعيد» الأخيرة، ولا بدّ من استعادتها. أوضح الروس أنهم يرفضون بقاءها خارج سيطرة النظام لكنهم لا يزالون يفضّلون الخطط والأفكار التركية كبديل من خطط النظام الذي يلحّ على اجتياحات لعقد ما يسمّيها «مصالحات»، إلا أنه لا يستطيع ذلك بمساعدة الإيرانيين وأتباعهم وحدهم بل يحتاج إلى الدعم الجوي الروسي. القرار لموسكو، إذاً، وكان مندوبها ألكسندر لافرنتييف حاسماً وتاركاً الباب موارباً في آنٍ حين قال أن «لا عملية عسكرية واسعة قريباً في إدلب». وفُهم ذلك بأنه تمديد للاعتماد على تركيا، وكان استياء وفدَي النظام وإيران بادياً في تصريحات بشار الجعفري الذي لم يجد الكثير من الديبلوماسية لتغليف شتائمه لتركيا. لكن أحداً في النظام لا يستطيع اليوم معارضة الروس أو إغضابهم.
«معركة» أو لا معركة في إدلب، إذاً، ومَن يريدها ومَن لا يريدها؟ لمس النظام والإيرانيون منذ فترة طويلة أن ثنائي روسيا – تركيا أصبح المحور الرئيسي لمسار آستانة. ولهذا أسبابه، فروسيا تريد «كل سورية» في نهاية المطاف، وإذ احتاجت إلى الإيرانيين وأتباعهم لاستكمال ما تبقّى من عمليات قتالية فإنهم قاموا بما طُلب منهم لكن الحاجة إليهم تتناقص كلّما اقترب الصراع المسلّح من نهايته. وإذا كانت روسيا لا تطالب الإيرانيين بسحب ميليشياتهم فلأنها قد تطلب منهم مؤازرة قوات النظام في مهمة أخيرة في إدلب. لكنها في هذه المنطقة تحديداً تحتاج أولاً إلى تركيا ولا تستطيع تجاهل المكاسب التي قدمتها إليها أو الأدوار التي لعبتها منذ 2016 وستلعبها في خدمة الخطط الروسية، فلولا تعاون أنقرة لما أمكن احتواء الفصائل وحصرها في إدلب ولا وقف تدفق اللاجئين الذي يحمّل الأوروبيون روسيا مسؤولية أساسية فيه.
تركّز التفاهم الروسي – التركي في شأن إدلب على ضرورة إيجاد مقاربة مختلفة للوضع في هذه المحافظة السورية، بسبب تعقيداته العسكرية (خليط الفصائل وانتماءاتها…) والمدنية (تكدّس المهجّرين من مناطق مختلفة). قد تكون موسكو تفهّمت موجبات هذه المقاربة التركية بعدما تعهّدت أنقرة بأنها قادرة على إدارة حلّ سياسي – استخباري يحقّق الهدف المتّفق عليه: إنهاء سيطرة متشدّدي «جبهة النصرة/ هيئة تحرير الشام» بأي وسيلة. لكن التسهيلات والضمانات التي قدّمتها موسكو لم تكن دائماً مساعدة لـ «الخيار التركي»، إذ إنها لم تتخلَّ عن الخيار الآخر، أي اجتياح قوات النظام والميليشيات الإيرانية لإدلب، بل إنها دعمته وتواصل دعمه بضربات جويّة أو بغضّ النظر عن هجمات لاختراق المنطقة. وعلى رغم أن النقاش مع أنقرة استدعى مجدّداً التمييز بين «المعتدلين» و «المتشدّدين»، كما في الجدل الروسي – الأميركي طوال 2016، إلا أن الروس الذين تجاوزوا دائماً هذا التمييز وجدوا مصلحة في مراعاة الحجج التركية، أولاً لاجتذاب أنقرة وإبقائها في مسار آستانة، وثانياً لوجود اصطفاف غير متماثل على الأرض بين المصنّفين «قاعديين» و «إرهابيين» وبين الفصائل التي ينتمي معظم مقاتليها إلى «الجيش الحر» الذي يريد الروس إعادته إلى كنف النظام، بالأحرى إلى كنفهم.
اجتياح قوات النظام والإيرانيين لإدلب بغطاء جويّ روسي يبقى خياراً قائماً وممكناً، بمعزل عن الوقت الذي يستغرقه، لكنه بالتأكيد مشروع مذبحة كبرى معلنة على الجانبين، ووصفة لدفع أكثر من مليونَي لاجئ إلى خارج إدلب وقد لا تتمكّن منطقة «درع الفرات» من استيعابهم، إضافة إلى الدمار الذي سيثقل فاتورة إعادة الإعمار… انطلاقاً من هذه الاعتبارات الواقعية وغير المضخّمة عمد الروس دائماً إلى لجم النظام والإيرانيين، كما فعلوا أخيراً غداة الاجتماع العاشر لمسار «آستانة – سوتشي»، وما عزّز ميلهم إلى خطط أنقرة أمران: الأول، أن اللازمة السياسية المبرمجة منذ قمة بوتين – ترامب في هلسنكي باتت دائمة التركيز على «عودة اللاجئين» و «إعادة الإعمار» و «معالجة الأوضاع الإنسانية»، لكن من دون نسيان «محاربة الإرهاب». والآخر، أن تفجّر الأزمة التركية – الأميركية يستوجب عدم الضغط على أنقرة، خصوصاً أنها أحرزت تقدّماً بتوحيد معظم الفصائل «المعتدلة» تحت مسمّى «الجبهة الوطنية للتحرير»، وهي الخطوة التي كان متفقاً عليها وانتظرت «اكتمال النصاب» بانتهاء عمليات ترحيل المقاتلين من جبهة الجنوب. وبالنسبة إلى الروس فإن المهمة الأولى لهذه «الجبهة» هي المسارعة إلى القضاء على «النُصرة» وحلفائها، لذلك حدّدوا لتركيا مهلة زمنية، وتقدّر مصادر عدّة أن نهاية السنة هي الحدّ الأقصى لاعتبار «عقدة» إدلب محسومة.
قد يتطلّب هذا الحسم وقتاً أطول، ذاك أنه يشبه عملياً تصفية لمجمل تعقيدات الأزمة السورية، سواء كانت «عسكرة الثورة» من جهة أو «وحشية النظام» وحلفائه بمن فيهم الروس من جهة أخرى. وإذ تراهن الخطة التركية على قبول «هيئة تحرير الشام/ النصرة» طوعاً بحلّ نفسها وبـ «ترحيل الأجانب» على أن يُتّفق على حلول (نوقشت سابقاً) لأوضاع مقاتليها السوريين، وهم الغالبية. الطوعية تستلزم واقعية وبراغماتية، وقد يرضخ لها قادة «النُصرة» متى تعرّفوا إلى كل ما يُعرض عليهم، لكن عناصر أي «اتفاق» محتمل ليست واضحة. إذا لم يرضخوا فقد لا تكون هناك ممانعة مبدئية لدى الفصائل الموحّدة من ضرب «النُصرة»، إذ حصلت سابقاً مواجهات دموية بين الطرفين في مناطق شتّى، ثم إن الظرف الحالي بات مسألة حياة أو موت لأيٍّ منهما. لكن، هنا أيضاً، تريد فصائل «الجبهة الوطنية للتحرير» التعرّف إلى معالم خريطة الطريق التي يدفعهم إليها الأتراك، فمع قبولها التزام «خفض التصعيد» وعدم مقاتلة النظام تحتاج الفصائل إلى ضمانات بأن الروس والنظام والإيرانيين لن يتدخّلوا في قتالها – إذا كان لا بدّ منه – مع «النُصرة»، ولن يبادروا إلى اجتياح إدلب بعد إنجاز المهمة ضد «النُصرة». الضمانات التركية لا تكفي، والضمانات الروسية لا يوثق بها طالما أنها تستند دائماً إلى «مصالحات» مع النظام.
كان الرئيس الروسي والمستشارة الألمانية بالغَي الوضوح في مؤتمرهما الصحافي الأخير (18/08)، إذ طلب بوتين أن تساهم الدول الأوروبية «مالياً» في إعادة إعمار سورية، مسوّقاً وصفته السحرية لـ «تلازم» عودة اللاجئين مع إعادة الإعمار. لكن أنغيلا مركل حذّرت من «كارثة إنسانية في إدلب وسورية والدول المجاورة»، وقالت أنها ناقشت سابقاً مع بوتين «قضية الإصلاحات الدستورية والانتخابات المحتملة (في سورية)». وفي ذلك أكثر من إشارة: أولاً أن الحسم في إدلب قد يفاقم مجدّداً قضية اللاجئين. وثانياً، أن الأوروبيين يواصلون ربط مساهمتهم في إعادة الإعمار بعودة اللاجئين والحل السياسي. وثالثاً، أن أطروحات روسيا فشلت حتى الآن في الإقناع بأنها كفيلة بتحقيق الأهداف التي تتوخّاها من دون أي تغيير في سلوك النظام.