كتب أكرم البني في صحيفة “الشرق الأوسط”:
لم يكن عبثاً أو تجنياً تحميل السلطة السورية مسؤولية المجزرة الرهيبة التي ارتكبها تنظيم داعش منذ أسابيع، في مدينة السويداء ذات الغالبية الدرزية، وذهب ضحيتها مئات القتلى والجرحى، إلى جانب عشرات الرهائن من النساء والأطفال لا يزال مصيرهم معلقاً، ليس فقط بسبب الباع الطويل للسلطة وحليفتها إيران في قيام تنظيم داعش، وتمكينه في الأرض، واستغلاله لتخويف المجتمعات الغربية والأقليات الدينية والقومية، أو التسوية التي مُررت منذ شهور في مخيم اليرموك قرب دمشق، ونقل بموجبها مئات المقاتلين من «داعش» إلى البادية السورية المحاذية لمدينة السويداء، أو ما أثير عن تواطؤ النظام مع تنظيم داعش، وسحب كتائبه والسلاح الثقيل قبل يوم من المجزرة، وإنما الأهم لأن المجزرة حصلت في الوقت الذي وصلت فيه المفاوضات إلى طريق مسدودة، بين قيادات عسكرية روسية وزعماء مدينة، رفض أهلها منطق العنف السلطوي المنفلت، وآثروا الحياد تجاه الصراع الدامي في البلاد، وشجعوا شبابها على الفرار من التجنيد وعدم الالتحاق بالجيش، حين وظفته النخبة الحاكمة لمواجهة الشعب وتطلعاته المشروعة. ولا يضعف هذه الحقيقة القصف السلطوي الخجول الذي طال مواقع تنظيم داعش بعد المجزرة، أو العمليات العسكرية التي تشنها قوات النظام اليوم ضده.
هذه المجزرة وتداعيات مصير المخطوفين، ليست سوى الأسلوب الأبشع من أساليب متنوعة اعتمدها نظام استبدادي يدعي حماية الأقليات؛ لكن لترويعها وإخضاعها، وربط مصيرها بمصيره، وتبدأ بمسارعته، مع بدء ثورة السوريين، إلى إطلاق سراح مئات المتطرفين، وتسعير الاستفزازات المذهبية، بتسريب صور ذات بعد طائفي عن عمليات القتل والتعذيب والترويع؛ لاستجرار ردود أفعال من الطبيعة ذاتها، تنقل الصراع السوري من بعده السياسي إلى بعد طائفي ومذهبي بغيض. والهدف تشويه ثورة السوريين، وتغذية حضور العنف الإسلاموي شعبياً وعسكرياً، ما يعمق الشروخ والاحتقانات الاجتماعية، ويخفف الضغوط الخارجية عليه، وتعاطف الرأي العام مع معاناة السوريين ومطالبهم المشروعة، ويضمن ولاء أو صمت قطاعات كبيرة من الأقليات، قومية كانت أم دينية، مستثمراً مخاوفها من وصول الإسلاميين إلى سدة الحكم، والخشية من مظاهر التضييق والتنميط المرافقة لهذا النوع من الحكومات، التي تحاول فرض أسلوب حياتها وثقافتها على المجتمع، وتهديد هوية هذه الأقليات وحقوقها وطرق عيشها، فكيف الحال حين يجري تحميل الجماعات الإرهابية المتطرفة مسؤولية هجمات مباغتة غامضة، وقذائف هاون كان يتواتر سقوطها على مناطق وأحياء الأقليات، ما أودى بحياة العشرات من أبنائها في مدينتي جرمانا وصحنايا مثلاً؛ حيث تسكن غالبية درزية، أو في حي القصاع الدمشقي ذي الأكثرية المسيحية، بينما انكشف للعيان أن بعض هذه القذائف أطلق من جبل قاسيون؛ حيث تتمركز قوات النظام، عند ضغط حاجته لإثارة مخاوف الشارعين المسيحي والدرزي وتعميقها؟ وكيف الحال مع زج شخصيات عسكرية وأمنية تنتمي لهذه الأقليات، كي تنفذ أشنع وسائل الفتك والتنكيل في مناطق تحسب على الأكثرية السنية؟ وكيف الحال مع تخصيص جهود دؤوبة لاعتقال ومحاصرة وتهجير العشرات من أبناء الأقليات الذين وقفوا مع الثورة، كان أوضحها النيل من شيوخ الكرامة الذين رفضوا وقاوموا الأساليب الأمنية، ووصل الأمر إلى حد الاغتيال الصريح والسافر للشيخ وحيد بلعوس، أحد أبرز زعمائها، بينما لا يعرف إلى اليوم مصير المطرانين المخطوفين منذ سنوات، واللذين كانت لهما تصريحات لافتة تدين العنف السلطوي المنفلت وتدعو للمصالحة والإصلاح؟ وكيف الحال مع دأب النظام على إشاعته المخاوف من القادم الإسلاموي الانتقامي، بحجة أنه سيقتص من الطائفة العلوية بأشنع الوسائل، ويتركها أسيرة القهر والإذلال، ولا خيار لها بالتالي سوى مزيد من الالتفاف حول النظام؟ وأيضاً كيف الحال مع تسليط النظام شبيحته في تجمعات الأقليات، وإطلاق يدهم لترويع الناس بصورة شبه يومية، تنكيلاً وابتزازاً وخطفاً، وساد هذا النهج بصورة خاصة في مدينة سلمية التي تقطنها غالبية من أبناء الطائفة الإسماعيلية، وخرج من صلبها مئات المعارضين؟!
تشكل الأقليات الإثنية والدينية في سوريا نسبة تقارب 40 في المائة من عدد السكان، وتتألف من شتى مذاهب المسلمين والمسيحيين، وقوميات تتباين ثقافاتها مع العرب، كالأكراد والشركس والتركمان والأرمن والآشوريين، وقد تعرضت جميعها وإن بنسب متفاوتة لمختلف أصناف القمع والاضطهاد من النظام الحاكم، بغية تطويعها وتسخيرها لخدمة مصالحه، ولتوسيع قاعدته الاجتماعية. وإذ لازمت في غالبيتها الصمت والخضوع لإملاءات السلطة خلال عقود طويلة تحت هواجس شتى؛ لكن تاريخها شهد حركات ونشاطات مناهضة لسياسات الاستبداد، من خلال أحزاب وشخصيات معارضة، من الأكراد والإسماعيليين والدروز والعلويين والمسيحيين، عانوا من السجون والإفقار والمنافي، لقاء رفضهم نظام القهر والفساد والتهميش، ودعوتهم لبناء سوريا مدنية تعددية وديمقراطية.
وطبعاً ما كان لينتشر في سوريا مصطلح أقليات وأكثرية، لولا تواتر حالات التمييز السلطوي، القومي أو الطائفي، لضمان الولاء على حساب الرابطة الوطنية والسياسية، وعلى حساب معايير الكفاءة والنزاهة، ولولا استجرار وتشجيع ردود أفعال وولاءات من الطبيعة ذاتها لدى تلك الكتل الاجتماعية، ازدادت وضوحاً وحدّة خلال سنوات الصراع الدامية، معرّية هشاشة وزيف ادعاء النظام حماية الأقليات، وكيف تقصّد، حفاظاً على تسلطه وامتيازاته، صب الزيت على نار الفتن المذهبية والطائفية، وتفتيت النسيج الوطني المتعايش منذ مئات السنين.
وإذ نعترف أن مسألة الأقليات ومخاوفها هي شماعة يستخدمها المتمسكون بمصالحهم وفسادهم ليبرروا صمتهم، ويستخدمها المجتمع الدولي ليبرر سلبيته وتخاذله، لا بد أن نعترف أن جماعات الإسلام السياسي فشلت في نيل ثقة مجتمع تعددي ومتنوع، حين فرضت في مناطق سيطرتها مشروعها الأحادي المنفر، وأكدت الصورة النمطية عن نكثها بوعودها والانقلاب، ما إن تتمكن، ضد الحريات وتداول السلطة، لنخلص إلى أنه ليس من حامٍ للأقليات ولوحدة النسيج الوطني، سوى عقد اجتماعي يزيل، مرة وإلى الأبد، منطق العنف والقهر والتمييز، ويصون حقوق الناس على قدم المساواة كأفراد مواطنين، متجاوزاً نظرية الأغلبية والأقليات الدينية والإثنية، وفاسحاً في المجال أمام الجميع، للمشاركة في تقرير مستقبل البلاد، على قاعدة مقارعة الآخر المختلف في مناخات الحرية، وعبر المؤسسات السياسية والدستورية.