Site icon IMLebanon

على خطى حكومة سلام: كلمة السرّ متأخرة

كتب نقولا ناصيف في صحيفة “الأخبار”:

مؤشرات قرب تأليف الحكومة في اليوم الأول من الشهر الرابع تساوي ما كانت في اليوم الأول غداة الاستشارات النيابية للرئيس المكلف: صفر. معدومة. معلَّقة بسقوف عالية معلنة، ولاعب مُخفى. إلا إذا هبطت فجأة كلمة سرّ من مكان بعيد.

إلى اليوم، ليس ثمة إشارة إقليمية، ظاهرة على الأقل، تُنبئ بعرقلة تفتعلها الدول المؤثرة تقليدياً في الداخل اللبناني في تأليف الحكومة: لا الأميركيون يشترطون سلفاً عدم توزير حزب الله، أو منعه من الوصول إلى حقائب معينة. ولا الإيرانيون طلبوا مواقف محدّدة مرتبطة بالمقاومة وسلاحها. ولا السوريون سارعوا إلى إبداء وجهة نظر سلبية، أو ربط التأليف باستعادة رسمية علنية للعلاقات بين البلدين، أو بإزاء الرئيس المكلف سعد الحريري نفسه حتى. ولا السعوديون يريدون التدخل في هذا الاستحقاق، فيتعمدون إظهار المسافة بينهم وبين التأليف، كما والرئيس المكلف بالإحجام عن التواصل الرسمي ـــــ لا «الأبوي» ـــــ معه في الرياض. أتى أخيراً، لأيام خلت، كلام القائم بالأعمال السعودي وليد البخاري، بعد اجتماعه بالحريري في 17 آب، كي يؤكد هذا المنحى، قائلاً إنه لم يتطرق معه إلى تأليف الحكومة.

ليس في عادة ثلاث من الدول الأربع هذه، المؤثرة تقليدياً، الإفصاح عن مناقشتها مسألة داخلية لبنانية عندما تخوض فيها همساً مع المسؤولين اللبنانيين، على طرف نقيض من السوريين الذين كانوا يجهرون بتدخلهم في الشأن اللبناني، ويعزونه إلى رغبة اللبنانيين أنفسهم في ذلك. في ما رمى إليه البخاري، ليس تبرئة حكومته من أي عرقلة تجبه تأليف الحكومة، بل الدل على حليفيها الرئيسيين وليد جنبلاط وسمير جعجع، ودعوة ضمنية إلى الأخذ في الحسبان ما يصرّان عليه. إلى التحدث معهما لا مع المملكة.

كل ما يدور في ظاهر اللعبة الداخلية، أن الأفرقاء اللبنانيين وحدهم المعرقلون ما خلا ثنائي حزب الله وحركة أمل الذي حدّد، منذ اليوم الأول للتكليف، مساحته في الحكومة الجديدة: ستة وزراء شيعة، حقيبتان رئيسيتان، إحداهما سيادية هي المال والأخرى أساسية هي الصحة غير قابلتين للتفاوض، أما الحقائب الأخرى، فبرسم المقايضة والتفاوض. فرض أيضاً، وضمناً وليس علناً، فيتو عدم وضع حقيبة الدفاع بين يدي فريق يتوجس منه، هو حزب القوات اللبنانية. يلاقيه في هذا التوجس رئيس الجمهورية ميشال عون وقيادة الجيش بالذات.

مع معرفة الأفرقاء جميعاً أن حقيبة الدفاع لا تعدو كونها إدارية أكثر منها تنفيذية أو مقرّرة. لا تشبه نظيراتها السيادية كالداخلية والخارجية والمال كما سواها في نفوذ مَن يتبوأها ما دام القرار السياسي في الجيش ـــــ وليس العسكري والأمني فحسب ـــــ في يد قائده، إلا أن التجربة الأخيرة للقيادة مع وزيرها الحالي يعقوب الصراف عُدّت الأسوأ. بلغت حدّ انقطاع التواصل بينه وبين العماد جوزف عون في بعض الأحيان، وإصرار الوزير على التدخّل في شؤون في الغالب تقتصر على القائد وأركانه. حريّ هذه المرة أن يُصغَى إلى رأيها في وزيرها. كان الصراف خيار رئيس الجمهورية، شأن ما كان الرئيس الأول منذ اتفاق الطائف يسمّي قائد الجيش بمفرده، وفق مشيئته، ولا يتدخل فريق محلي أو خارجي في اختياره. بل ينظر رئيس الجمهورية إلى المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية على أنها دولته هو بالذات أكثر منها دولة السياسيين.

يكاد «الثنائي الشيعي» وحده يكون خارج برواز أزمة تأليف الحكومة، قياساً بالسقوف العالية للأفرقاء الثلاثة الآخرين: الوزير جبران باسيل لا يتزحزح عن 10 وزراء، بما فيهم حصة رئيس الجمهورية، وليد جنبلاط لا يتزحزح عن المقاعد الدرزية الثلاثة، سمير جعجع لا يتزحزح عن أربع حقائب، إحداها نيابة رئاسة الحكومة التي يتمسك بها رئيس الجمهورية، أو حقيبة الدفاع، ودونها الفيتو المثلث. مع ذلك توجّه التهكنات أصابع الاتهام بالعرقلة إلى الخارج أكثر منها إلى الداخل، وفي ظن البعض المعني أن كلمة السرّ تهبط في الوقت غير المتوقع.

بعد عشرة أشهر على تكليف الرئيس تمام سلام تأليف الحكومة في 6 نيسان 2013، بدت أمامه الأبواب موصدة تماماً، رغم طرحه معادلة متوازنة لحكومة من 24 وزيراً: 8 ــــ 8 ــــــ 8 مثالثة بين قوى 8 و14 آذار وفريق ثالث عُدّ وسطياً، هم وزراء رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وجنبلاط. كان الرفض من الداخل ـــــ وأوحى أنه القاعدة الصلبة ــــــ انعكاساً لرفض من الخارج لم يُطل برأسه مرة. غالباً ما ذهب على مرّ هذه الأشهر ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في لبنان إلى الرياض وطهران لاستكشاف العقبة وعاد خالي الوفاض. كذلك تواصل موفدون أميركيون، بينهم السفير في بيروت مع الرياض، وآخرون خاصون فرنسيون قصدوا السعودية وإيران.

في الأيام العشرة الأخيرة التي تلت الشهر العاشر، تبلغ أحد معاوني سلام من ديبلوماسي عربي نافذ في بيروت أن العقبة على طريق تذليلها. لم يصدّق الرئيس المكلف، إلى أن تبلور الحل الخارجي. فجأة، زالت عراقيل الداخل في ساعات قليلة: جبران باسيل وزيراً للخارجية، أشرف ريفي الذي اشترط توزيره بحصوله على حقيبة الداخلية قَبِلَ بحقيبة العدل، لكونها على صلة مباشرة بالأمن ـــــ إذ يعتبره اختصاصه ومهنته ـــــ الذي يفضي في نهاية المطاف إلى القضاء، وحل نهاد المشنوق في حقيبة الداخلية محل ريفي.

بسحر ساحر لم يعد للعراقيل الداخلية أي شأن، وتدحرجت، وإن حاز أصحابها شروطهم، فصدرت مراسيم الحكومة الجديدة في 15 شباط. في الشهر التالي، بعد الاتفاق على البيان الوزاري في 15 آذار 2014، كانت المفاجأة الثانية: تلقي سلام مكالمة هاتفية من الرئيس الأميركي باراك أوباما استمرت ربع ساعة، انقطعت أربع مرات، عاود أوباما مع ذلك مخابرته، لتهنئته على تأليف الحكومة وتأكيد دعمه والوقوف إلى جانبه.

حتى ذلك الوقت، اتُّهمَ سلام بالعجز، والتخلي عن مسؤولياته ودوره، والتفريط بصلاحياته الدستورية، ومقام منصبه. كاد يعتذر أكثر من مرة بعدما دُعي أيضاً إلى هذا الموقف، وفي قرارة نفسه أنه سيُعاد تكليفه. كمنت القطبة المخفية حينذاك في أن الجميع، في الداخل والخارج، كان يعرف حقيقة ساطعة وشيكة، هي أن البلاد مقبلة على انتخابات رئاسة الجمهورية، لكن من دون انتخاب رئيس.

كانت تلك إشارة خفية لا تحتاج حتماً إلى تفسير عن جهد دولي واكب العقدة الإقليمية الغامضة، العالقة ما بين الرياض وطهران، ما أفضى إلى تحريك بيادق الشطرنج اللبنانية. الأحجار الصغيرة الضعيفة الكثيرة في اللعبة.

في انتظار هبوط كلمة سرّ مماثلة، للبيادق اللبنانية أن تسرح وتمرح لمزيد من الوقت.