كتب خالد غزال في صحيفة “الحياة”:
دخلت قضية النازحين في صلب الأزمة السياسية اللبنانية التي تتمحور اليوم حول تشكيل الحكومة. يحمل لواء التحريض في هذه المسألة كل من التيار الوطني الحر و«حزب الله»، وكل من منطلق يتوافق ومصالحه. يدعي التيار العوني أن وجود النازحين مسؤول بالدرجة الأولى عن الانهيار الاقتصادي في البلد، وأن إعادتهم الى سورية ستنعش الاقتصاد وتعيد له ازدهاره. الى جانب تحميل النازحين هذه المسؤولية، يرتفع خطاب شعبوي يطلقه قادة هذا التيار منذرين اللبنانيين، وبخاصة المسيحيين منهم، بأن الدول الأجنبية تسعى الى توطين النازحين، ما سيغير في المــعـــادلة الديمـــوغرافــيــة، ويغرق المسيحيين في بحر إسلامي، بما ينهي لبنان كوطن يحتل فيه المسيحيون موقعاً مميزاً. لا ينطق التيار وقادته عن وجهة نظر إنسانية ولا أخلاقية، بل يسعون الى استثمار القضية في إيجاد لحمة مسيحية قائمة على عنصرية بشعة اعتمدها قادة التيار سابقاً ضد الوجود الفلسطيني، وها هم يعيدون تكرارها مع النازحين السوريين.
«حزب الله» في المقابل، يتعاطى مع الموضوع على أساس أنه بطل إعادتهم الى سورية. يختلف عن التيار في النظرة غير العنصرية. لكن الحزب يوظف الموضوع من أجل فرض تطبيع لبناني مع النظام وفرض عودة العلاقات السياسية الى سابق عهدها قبل خروج الوصاية السورية من لبنان. لا يمكن تنزيه الحزب من مغازلة للتيار وقادته سعياً الى إبقاء علاقة جيدة معه يبدو الحزب ما زال في حاجة إليها كتغطية مسيحية في سياق الصراع على عودة العلاقات مع النظام السوري.
بالنسبة الى الطائفة السنية التي يرفض قادتها الرئيسيون، خصوصاً تيار المستقبل، مجاراة التحريض العنصري أو الطائفي، فهو لا يقول بعدم عودة النازحين، لكنه لا يقبل أن يكون الموضوع مدخلاً للعلاقة مع النظام السوري. ما يريده التيار المستقبلي أن يتم التعاطي مع الموضوع من زاوية أخلاقية وإنسانية، وهو الهدف نفسه الذي تنطلق منه الأمم المتحدة والدول الأوروبية. وجوباً على التيار العوني، لا يتخوف اللبنانيون من اعتبار النزوح السوري عنصراً في تعديل التوازنات، أو عاملاً يجري الاستقواء به في الصراع اللبناني – اللبناني على غرار ما جرى في الحرب الأهلية في سبعينات القرن الماضي، حيث كان الاستقواء بالعنصر الفلسطيني عاملاً وازناً في الحرب.
في الجانب الروسي، يبدو هدف الاستثمار صريحاً. تبنت روسيا شعار إعادة النازحين، وطرحت خططاً للتنسيق مع الدول التي يقيمون عليها، ومنها لبنان. كما طرحت روسيا الموضوع على الأمم المتحدة والدول الأوروبية. لم تناقش روسيا مسائل أساسية من قبيل العودة الآمنة للنازحين، بل من زاوية تأمين التمويل اللازم لعودتهم، ومن أجل إعمار سورية. ردت الدول الأوروبية سريعاً على الاقتراحات الروسية في جانبين. بالنسبة الى النازحين، اعتبرت أن شروط سلامة العودة وتأمين مساكن لمن تهدمت منازلهم هي الموضوع الأساس، وأن هذه الدول تتعاطى مع الموضوع من جوانبه الأخلاقية والإنسانية، وهو أمر غير متوافر حتى الآن. في الجانب الآخر المتصل بالتمويل، ترفض الدول الأوروبية الدخول في إعمار سورية قبل حصول تسوية سياسية تنهي الحرب وتؤمن موقعاً في السلطة لقوى وأطراف سياسية، إضافة الى تعديلات في النظام السياسي تحد من ديكتاتورية آل الأسد. عبرت هذه الدول عن هذا الموقف بطرق شتى، لعل أهمها سحب الاستعدادات لدفع مبالغ في سياق الإعمار.
أما النظام السوري، المعني الأول بعودة النازحين، فيتصرف على قاعدة أن الموضوع يمكن الإفادة منه واستثماره في جوانب عدة. لبنانياً، يرى النظام أن القضية وسيلة ضغط على الوضع اللبناني من أجل إعادة إخضاع البلد الى الوصاية السورية. وهو يربط الموضوع بعلاقة رسمية بين الحكمين السوري واللبناني. صحيح أن بعض النازحين أعلنوا الاستعداد للعودة، واستجابوا للقوى التي تعمل على تنظيم هذه العودة، لكن المفاجأة تأتيهم من رفض النظام عودتهم، وهو نهج معتمد في سياق التغييرات الديموغرافية التي يجريها النظام داخل مناطقه. لا يريد النظام استعادة النازحين، فهو يعتبر أن أحد مكاسب الحرب عنده هو الفرز الديموغرافي الذي خلق تجانساً طائفياً، بما عزل ملايين من السكان كان يرى فيهم خطراً على نظامه. إذاً، المعيق الأساسي لعودة النازحين إنما هو النظام نفسه.
في المقابل، لا يمانع النظام في أن تظل قضية النازحين مطروحة من أجل استدرار المساعدات المالية، أو إعادة الإعمار. وفي هذا المجال، يلتقي النظام مع روسيا في استخدام النازحين شماعة، مطروحة في وجه العالم، ملوحين بأن هذه القضية ستكون مصدراً لاستعادة الإرهاب، إذا لم تبادر الدول الأوروبية وأميركا الى إرسال البلايين المطلوبة لإعادة الإعمار في شكل سريع.
وسط هذا الجدال، يعيش النازحون أسوأ أيامهم في ظل الخدمات الشحيحة التي تصلهم، والمخيمات غير الصحية تأويهم. هم يعانون البؤس فيما يتلاعب الآخرون بمصيرهم، ويستثمرون بؤسهم في سبيل مصالحهم السياسية.