كتب راشد سركيس في صحيفة “الأخبار”:
يستهلك الانسان، يومياً، مواد كثيرة تختلف في تكوينها وأنواعها وأشكالها وطريقة تعليبها ومنافعها، ويستغني عما تبقّى بنسب متفاوتة. هكذا، تتحول المواد، في لحظات، من حاجة ضرورية وأساسية، الى نفاية لا يمكن تخزينها او إعادة استخدامها… فما هي المبادئ العامة التي تحكم التخطيط السليم لادارة البقايا او الفضلات الناتجة من الاستخدامات المختلفة؟
أظهرت التحولات البيئية العالمية ضرورة قصوى للتوجه الى استكمال الحياة الدائرية للمواد التي نستخدمها في يومياتنا، وهو ما يوجب اعادة النظر، باستمرار، في تركيبة النفايات (من الأصناف والمواد)، لتلافي الأنواع المكلفة في المعالجة والمؤذية للبيئة. وفي الحالة اللبنانية، المراجعة المستمرة مطلوبة لابتداع حلول تتماشى مع نوعية نفاياتنا. فيما العلاج الجدي، في كل الحالات، يبدأ باعتماد الفرز من المصدر، أولاً، وفصل كل ما هو قابل للتدوير عن كل ما هو عضوي او ناتج عن استهلاك مواد عضوية. وهذا، إن طُبّق، يخفّض حجم النفايات الى اقل من النصف، ويسهّل عملية المعالجة بشكل جذري.
يبدأ «مسير» النفايات بالتشعب بسبب تفاوت انواعها، وهي في لبنان تكتنز نسبة رطوبة عالية لا تسمح بالتفكير كثيرا في تجفيفها بسبب كلفتها المالية والبيئية والطاقوية الباهظة. فيما يفترض التعاطي الحكيم وضع سلم هرمي واقعي يتطابق مع تركيبة النفايات اللبنانية، وفرض سلسلة متكاملة من الاجراءات العملية التي تسمح بمعالجة نهائية.
الخطة المركزية
الترجمة العملية تتلخص باتخاذ تدابير مركزية، تشريعية وتنفيذية، وأخرى لامركزية.
مركزياً، يفترض اتخاذ وضع جدول بالمراحل التي تعبر بها المواد بعد انتهاء استخدامها او استهلاكها (اقفال الحياة الدائرية للمواد)، وفرض ضرائب تصاعدية على المنتجات التي تنتج نفايات تحتاج كلفة عالية للمعالجة، وبناء عليه اتخاذ قرار «ممنوع استخدام كيس النايلون». كما يفترض وضع ضوابط على المواد المستخرجة من الطبيعة، ومعايير حازمة للتوضيب واستخدام البلاستيك والكرتون، وتأسيس معهد تعليم وتوجيه بيئي يعاونه مركز ابحاث ومرصد لمتابعة العمليات واجراء الاختبارات واصدار ارقام حقيقية، ووضع معايير ملزمة لكل مهمة تعامل مع النفايات من الانتاج الى الاستخدام فالجمع والنقل والتوضيب والمعالجة.
الخطة المركزية تقتضي أيضاً فرض معايير بيئية تلزم عدم نقل المواد العضوية لمسافات بعيدة (يتم تحديد سقف 12كلم مثلا). واطلاق حملات توعية لتوفير اكبر قدر من البيئة الحاضنة للحلول السليمة، ووضع تشريع مالي يحوّل النفايات الى سلعة خاضعة للبيع والشراء بحسب نوعيتها، وتشريع اداري ــــ مالي ــــ تجاري لتوفير كل الخدمات من جمع وكنس ونقل وتخزين ومعالجة وتصريف وتحوير وتحويل وانتاج طاقات نظيفة مختلفة.
بعد التجربة، كل خطة مركزية لا تستند الى خريطة وطنية كاملة تبقى موضع شك لأن التخطيط السليم يجب ان يترافق مع خريطة تظهر عليها كل المحطات والمختبرات والمعامل وربطها بنظام معلومات متكامل. كما يتوجب على السلطة المركزية ان تعي اهمية توزيع مواقع المعالجات ضمن سياسة استراتيجية في مواجهة اي استهداف للبنية التحتية اللبنانية كما لتأمين البدائل في حال الضرورة.
التدابير اللامركزية
بعد الخطة المركزية، لا بد من اطلاق عمل شركات متخصصة في مجال المعالجات المعترف بها، واطلاق يد البلديات في المراقبة والتحفيز، ووضع اطر تنفيذية لمراقبة تطبيق المعايير في كل مراحل المعالجة، ولا سيما السهر على تنفيذ فرز مكمّل للنفايات بعد فرزها من المصدر، ووضع برامج تربوية على المستوى المحلي تلازم العمل اليومي، واعادة رسم اطار علمي للتداول في المواد قبل وبعد استهلاكها وتحديد طرق جريئة للادارة السليمة. وخلق مؤسسة وطنية متخصصة في هذا المجال تغطي كل المناطق وتساعد على توفير كل الحاجات ومستلزماتها، وتطلق برامج تربوية هادفة، وخلق فرص عمل مميزة عبر اطلاق انواع جديدة من الاختصاصات وتوجيه الشباب اليها.
مبدأ الانفصال الكامل
لا تحتاج اية مواد تنتج في اساسها من الارض (معادن، زجاج، خشب، كرتون، ورق…) الى اي معالجة. فمنها ما يتحول الى مواد اولية جديدة عبر عمليات تدوير محدودة، ومنها ما يتم خلطه مع مواد اخرى لانتاج نوع جديد، ومنها ما لا يمكن اعادة تدويره مما يحتم معالجته بطرق خاصة.
اما المواد التي تتضمن رواسب كيميائية فينبغي حصرها وعدم السماح باختلاطها بأي مواد اخرى مما يحتم فصلها كلياً من المصدر. فيما تتفاوت الاصناف التي تنتج من المواد العضويّة في امكانية تحولها ومعالجتها. فهناك النفايات العضوية الزراعية التي توردها اسواق الخضار الكبيرة (جملة ومفرق)، وتلك التي تنتجها المرافق السياحية (مطاعم وفنادق…) بكميات كبيرة، والنفايات العضوية التي تنتجها المنازل في الاستخدامات اليومية. وكل من هذه الاصناف يتطلّب مقاربة خاصة.
القطاع الخاص
في الشقّ العملي، من جمع النفايات الى معالجتها، يقتضي التخطيط السليم فتح الباب امام تأسيس شركات وتصنيفها، فيكون منها: مكاتب استشارية تتولّى الدراسات اللازمة في كل ما له علاقة بالنفايات والمعالجة والاشراف، وأخرى متخصصة في مراقبة تطبيق المعايير والتدقيق الفني وتدريب الفرق العاملة في القطاع، وشركات تقدم خدماتها الى البلديات وتعنى فقط بالكنس وتنظيف الشوارع بحسب معايير توضع لها، وأخرى تعنى بجمع المواد غير العضوية بشكل منفصل لزيادة قيمتها المضافة، وثالثة تهتم حصرا بجمع المواد العضوية ونقلها الى المعامل المختصة بالمعالجة، ورابعة متخصصة في مجال الفرز والتدقيق والفصل الكامل بين المواد العضوية وغيرها.
دور وزارة البيئة
لا يكمن الحل البيئي السليم في الطمر كما ليس في الحرق، وانما في الاستفادة الكلية من الناتج العضوي واستثمار كل ما فيه من انواع الطاقة التي يزخر بها، واستعمالها في اطار استدامة الموارد الطبيعية من دون عناء او كلفة اضافية. ويتركّز دور وزارة البيئة في وضع الاسس ورسم الاطر الضابطة. فوزارة البيئة ليست معنية بالمناقصات، بل بالمساعدة في وضع المعايير والسهر على تطبيقها. فيما تتابع البلديات ادارة المشروع الذي يقع في صلب مهامها. ومن المستحسن، في هذا السياق، دمج وزارة البيئة مع البلديات. ومن اجل ذلك يجب:
استحداث مرجعية وطنية تساعد على وضع مواصفات لبنانية للنفايات بكل انواعها (typologie) وطرق المعالجة السليمة والشروط الفنية والمعايير الضابطة لكل منها والسهر على حسن تطبيقها.
وضع مواصفات ملزمة في كل ما يتعلق بالنفايات من المواد والانتاج الى الجمع والمعالجة وحتى الناتج النهائي من المعالجة (غاز، اسمدة صلبة او سائلة) ومراقبة تطبيقها.
اصدار برامج تثقيفية تساعد المواطن على فرز نفاياته من المصدر واعطائه محفزات قانونية ومالية عملية.
اعطاء البلديات صلاحيات كاملة في إدارة معالجة النفايات محلياً وفق معايير توضع مركزياً.
وضع تشريعات جديدة تضبط الاستخدامات اللاحقة للمواد بعد المعالجة للنفايات العضوية في كل ما يعود الى الغاز والاسمدة ومجالات التطبيق العملي لها.
أما في البعد الوطني العام فينبغي:
وضع معايير علمية متجردة لدراسات الجدوى الاقتصادية والبيئية ليستطيع المهتمون اتخاذ قراراتهم وفقا لدراسات علمية بعيدا من كل ضغط سياسي او تجاري.
تحقيق لا مركزية حقيقية على مستوى الخيارات التي تقررها السلطة المحلية ومجتمعها واحترام خيار كل منها، مع الزامها بتطبيق المعايير المركزية.
على الحكومة المركزية ان تعدل بين المواطنين عبر تدابير مالية دقيقة تعالج الخلل السابق في ادارة ملف النفايات وتعتمد المساواة بين البلديات حسب احجامها ونطاقاتها. فلا يجوز ان تتراكم ديون على بلديات معينة فيما تستفيد أخرى من تقديمات وهبات وقروض لمعالجة النفايات.
تطبيق لا مركزية حقيقية خارج الشعارات وفتح اطار خاص لتشجيع البلديات المتجاورة على التعاون ومساعدتها على المشاركة في ادارة نفاياتها. ويكون ذلك عبر إقرار دعم لكل بلدية تؤمن معالجة النفايات الناتجة من نطاقها البلدي (10 دولارات للطن الواحد مثلاً)، ودعم مضاعف لكل بلدية تعالج نفايات غيرها من البلديات المجاورة (20 دولاراً مثلا).