كتب علي نون في جريدة “المستقبل”:
استثنائية حتى بالمقاييس المتّصلة بوضعيّة «حزب الله» في جمهورية الطائف، تلك الدعوة «الجليلة» التي أطلقتها كتلته النيابية إلى لبنان «حكومة وقوى سياسية» من أجل إعادة النظر في علاقاته الإقليمية والدولية و«الإفادة من تطورات الأوضاع في المنطقة لمراجعة تموضعه الاستراتيجي».. كذا.
أي أن الحزب في هذه الدعوة لا يكتفي بالمطالبة بنسف الدستور الذي يُحدّد هويّة لبنان ويؤكّد التزاماته العربية العامة المُندرجة في سياق الإجماع أو المتناغمة والمؤتلفة مع مصالحه وتاريخه وبديهيّاته.. ولا يكتفي بكونه مسح بالأرض مبدأ «النأي بالنفس» بعد أن لحس توقيعه عليه في أرفع مقام دستوري ورسمي وليس خارجه (مجلس الوزراء!).. ولا يكتفي بأخذ غيره غصباً عنهم إلى ما يريده هو في سياساته و«نضالاته» و«مقاومته» وأدواره العابرة فوق الكيان والحدود والسدود! ولا يكتفي بأنّه يحتكر لنفسه صلاحيات مصيرية خارج سردية وروحية العقد الوطني المرسوم نظرياً على المسطرة والمُسماة أعرافاً موازية للدستور بما يتناسب ويتناسق مع تعدّدية طوائفية ومذهبية أولاً وسياسية ثانياً وبما يحفظ «مصالح» الجميع.. هواجسهم ومخاوفهم وخصوصياتهم..
ولا يكتفي الحزب بنقض ذلك كلّه من حيث المبدأ، بل يجد نفسه في موقع القادر على الجهر بإرادة تعميم خصوصياته على غيره! بما يعيد الألق إلى توجّس حقيقي من أدائه «الأخير» والعميق! وإلى الاتهامات التي تسوّق إليه وفي زبدتها أنّه يُمارس «التسوية» مضطراً لا مختاراً. وإذعاناً لحقائق الديموغرافيا والجغرافيا وليس اقتناعاً.. وأنه في الخلاصة، لو كان قادراً على تسييل وزنه التنظيمي والحديدي والصاروخي في الداخل الوطني، لما تردّد لحظة واحدة! ولما اعتمد التورية في سعيه الاستحواذي! ولما «ارتكب» الاعتدال السياسي على حساب أدلجته الآخذة به إلى التزامات دينية أكبر وأعمق وأشمل في عرفه من الالتزام بموجبات الدستور اللبناني، ثم بالأعراف المُكملة لهذا الدستور! بل يذهب التوجّس إلى حدِّ الظنِّ التعيس بأنه لو حسب أن للفتنة (المذهبية) مردوداً ربحياً أكبر من خسائرها لما تردّد في اعتمادها؟!
قدّم في سوريا مثالاً على ذلك! و”يُساهم” في العراق تحت هذا المثال! وفي اليمن حسب المقام! وفي أدائه إزاء المجموع العربي العام والخليجي خصوصاً، ما يدلّ على «صدقيّة» هذه القراءة الشاملة لتوجّهاته وطريقة تفكيره وخلفيّات أدلجته الواضحة، في كل حال!
لكن في دعوته الراهنة والفريدة في استثنائياتها، وفي ظل الاشتباك السياسي الدائر حول الحكومة شكلاً ومضموناً وأوزاناً وتوجّهات وسياسات، يذهب في الغلوّ إلى مصاف عبثيّة، تنسف السياسة والمنطق في جملتهما وتعرض على اللبنانيين خياراً انتحارياً مقفلاً!
بدلاً من «التواطؤ» الإيجابي الذي ارتضاه الجميع بأكلاف واضحة، والقائل باستحالة إنتاج موقف وطني أو رسمي إزاء القضايا المتفجرة داخلياً وخارجياً والاستعاضة عن ذلك باعتماد «كل فريق» «سياسة» خاصة تحت سقف عام.. يخطو «حزب الله» باتجاه دفع «كل» لبنان شرعية وشارعاً إلى الاصطفاف في سياسة إيران! ومعاركها وحروبها الراهنة! ويريد من اللبنانيين الدخول في شراكة مع مأزومين! ويدعوهم إلى التنازل عن ذواتهم وانتماءاتهم وهويّاتهم ومصالحهم وأرزاقهم خدمة لمجهود الحرب التي تخوضها إيران.. وأكثر في واقع الحال مما تريد إيران الذهاب إليه! أي أنه يريد من لبنان أن يلتزم ما لا تريد إيران الالتزام به! وما لا تريد بقايا السلطة الأسدية في واقع الحال، الالتزام به!
طهران تعرض على عادتها عندما تكون مأزومة، إعادة وصل ما انقطع مع السعودية ودول الخليج العربي! وتسعى على مدى وسعها من أجل تثبيت عدم القطع مع الغربيين في السياسة والتجارة والاقتصاد والمال والتبادل على أنواعه! ولا تتمنى سوى الانتهاء من حقبة دونالد ترامب للعودة إلى المسار الذي فتحه السيّئ الذكر باراك أوباما.. ثم تفعل المستحيل والممكن من أجل توسيع خياراتها حتى لو اضطرت إلى تقديم تنازلات تاريخية مثلما حصل في الاتفاق الأخير الخاص ببحر قزوين.. وبشّار الأسد لا يزال يحلم باللحظة التي تُفتح في وجهه مجدداً أبواب الغرب، ويؤلف وقائع على خلفية ذلك الحلم! ويُمارس في الواقع كل ما يؤكد صلاحيته لحماية حدود إسرائيل.. وبرغم ذلك وما هو أكثر منه وأفظع، لا يجد «حزب الله» سوى لبنان لدعوته إلى «إعادة النظر في بعض علاقاته الاقليمية والدولية»؟!!
حتى ضمن مقاييسه وسياساته وأدلجته، لا يرضى «حزب الله» للبنان متعة مساواته على الأقل، بإيران.. أو بالأسد؟! بل يطلب من اللبنانيين ما لا تطلبه سلطة إيران من الإيرانيين! ويتغاضى في الشكل والمضمون عن «حقائق الأسد الإسرائيلية» لكنه يتجرأ (وأي جرأة؟!) على مطالبة لبنان «حكومة وقوى سياسية» بالتصدّي لما يصفه بـ«التسلّل الإسرائيلي عبر تطبيع العلاقات مع بعض الدول العربية»!!
.. شيء من المنطق «والرأفة» فقط، إذا كانت «المساواة» بالإيرانيين والأسديين عزيزة على اللبنانيين ولا يستحقونها! ولو؟!