كتب سليم نصار في صحيفة “الحياة”:
استوقفتني ذات مرة عبارة أدلى بها إلى الصحف العلامة الراحل السيد محمد حسين فضل الله أعرب فيها عن توقه إلى إقامة جمهورية إسلامية في لبنان، شرط توافر الظروف الداخلية الملائمة.
ومع أنه لم يكن منخرطاً في أي حزب سياسي أو ديني، إلا أن فقهاء المذهب الجعفري الشيعي فسروا كلامه في حينه بأنه يصب في مصلحة نهج ولاية الفقيه، مع الحرص على اتباع مبدأ التقية.
وعليه رأى كثير من الإعلاميين أن خطابات السيد حسن نصر الله، التي ألقيت من الضاحية الجنوبية والهرمل، لم تكن أكثر من رسائل سياسية موجهة إلى الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومختلف القوى الناشطة في حرب اليمن.
وكذلك رأى اللبنانيون في تلك الخطب النارية خروجاً على سياسة «النأي بالنفس» التي التزمتها الدولة، خصوصاً أن الخطاب الأول كان معززاً بصورة الأمين العام لـ «حزب الله» وهو محاط بوفد حوثي من «أنصار الله» برئاسة الناطق الرسمي محمد عبدالسلام.
وفي ضوء الاجتهادات السياسية التي أعلنها المراقبون طوال آب (اغسطس) الماضي، فإن لبنان عاد ليمثل ساحة الصراع بين القوى الدولية والإقليمية على نحو وضع المنطقة كلها على حد السكين!
ومن المؤكد أن تأخير تشكيل الحكومة قد ساهم في تأجيج أجواء المشاورات، وإرباك خطوات رئيس الحكومة المكلف للمرة الثالثة. ولقد اعترف سعد الحريري بأنه يواجه تعقيدات متواصلة تتعلق بمطالب رؤساء الأحزاب والشروط التعجيزية التي يضعها زعماء الكتل. وقد اتهمه خصومه بالتقاعس والتردد عن قصد لأنه يرفض التطبيع مع سورية، والتنسيق مع نظامها الذي يرى في شروطه ابتزازاً فاضحاً من أجل كسب بعض الشرعية الإقليمية.
ونُقل عن رئيس الحكومة المكلف رفضه ربط إجراءات عودة النازحين السوريين بشروط التطبيع. وقال إن حكومته هي التي اختارت سفير لبنان الجديد في دمشق سعد زخيا. والمؤكد أن السفير مخوّل البحث في هذا الموضوع الشائك بمعاونة المدير العالم للأمن العام اللواء عباس إبراهيم.
والثابت أن الرئيس بشار الأسد يهمه قيام الحريري بمبادرة حسن نيّة تساعده على الخروج من مأزق مقاطعة الدول الأوروبية وبعض الدول العربية. ويستدل من التحذير الذي وجهه جون بولتون، مستشار الأمن القومي الأميركي، إلى الدول الأوروبية من أن واشنطن لن تسامح الدول الأوروبية الطامحة إلى الانفتاح الاقتصادي على طهران ودمشق. إضافة إلى التشدد الأميركي مع النظام السوري، قامت سلطة المعارضة السورية بإصدار بطاقات هوية جديدة في شمال سورية، كمحاولة لتعزيز هيمنتها على منطقة خارج سيطرة الأسد. وقد جرت هذه المحاولة بمساعدة تركيا.
يقول المطلعون على تطور الأحداث اللبنانية إن «حزب الله» لم يعد محتاجاً إلى الدور الذي لعبه الحريري عندما أوصل حليفه ميشال عون إلى قصر الرئاسة في بعبدا. وبما أن الوضع الأمني في سورية قد استقر نسبياً، لذلك قررت قيادة الحزب نقل جهودها إلى اليمن بغرض تحقيق أهداف عدة: أولاً – إحباط مهمة الحريري صديق السعودية واستبدال دوره بسياسي سنّي يكون مدعوماً من الأسد، ومقبولاً من إيران.
ثانياً – تعزيز موقف الحوثيين ودعمهم بمزيد من الصواريخ الموجهة نحو المملكة العربية السعودية، وبمزيد من خبراء القتال. علماً أن «حزب الله» أسس في الضاحية الجنوبية قناة تلفزيونية سماها «النبأ»، تستضيف دائماً خصوم السعودية، وتمتدح إيران وسخاءها المتواصل.
ثالثاً – التعاون مع رئيس وزراء سنّي لبناني يكون مهتماً بمساعدة إيران على تخفيف أثر العقوبات الاقتصادية والنفطية التي فرضها عليها الرئيس دونالد ترامب. وهو يهدد بفرض عقوبات إضافية على مبيعات النفط الإيراني في تشرين الثاني (نوفمبر). وتُعتبر إيران ثالث أكبر مصدر للنفط في «أوبك» بعد السعودية والعراق.
ويهم طهران من وراء التصعيد على مختلف الجبهات حرف الأنظار عن نتائج العقوبات الأميركية وإبلاغ واشنطن أنها قادرة على تحريك ساحات القتال في المنطقة.
وسط هذه التحولات، أعلن الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله أن المراهنين على التطورات الإقليمية سيفشلون في رهانهم، لذلك: «أنصح بعض القيادات التي نحن على خلافات معها في شأن العلاقة مع سورية، بأن لا يلزموا أنفسهم بمواقف قد يتراجعون عنها».
أمام إصرار الحريري على عدم التطبيع مع سورية، اضطر الرئيس ميشال عون إلى الاتصال بالأسد والتحدث إليه في شأن النازحين، وعرض موقفاً يؤكد للحليف أن سياسته الخارجية لا تتفق مع سياسة الحريري في قضية العلاقة مع سورية.
وكذلك فعل قائد الجيش اللبناني العماد جوزيف عون الذي اتصل بزميله في دمشق رئيس الأركان علي عبدالله أيوب، وهنأه بعيد الجيش. وكانت تلك المبادرة بمثابة تأكيد الشعار الثلاثي الأبعاد الذي أطلقه «حزب الله» سابقاً: الشعب والجيش والمقاومة.
في مطلق الأحوال، فإن أصدقاء سعد الحريري يعزون إصراره على الانقطاع عن زيارة دمشق إلى خلفيات سياسية ليست لها علاقة بملف النازحين، أو بموقف «حزب الله» من أزمة اليمن. ويعود هؤلاء الأصدقاء إلى التذكير بواقعة جرت للحريري أثناء اجتماعه للمرة الأولى ببشار الأسد. وفي حينه استقبله الرئيس السوري بصفته رئيس وزراء لبنان، ورحب به بحفاوة بالغة. علماً أن تلك الزيارة لم تكن مشمولة بغطاء دعوة رسمية.
وقبل الخوض في الشؤون العامة، وجه الأسد إلى الحريري سؤالاً محرجاً، قال فيه: «هل أنت مقتنع بأن لسورية دوراً في اغتيال والدك؟» وأجابه سعد على الفور: «أنا لا أعرف مَن قتل والدي، لكنني حريص على اكتشافه».
عندها، أكمل الأسد تعليقه على السؤال الذي اختاره كمدخل للقاء، فقال: إن سورية تعرضت لحملة ابتزاز واستفزاز استمرت أكثر من ثلاث سنوات. لذلك أرى أن الطائفة السنيّة أصدرت حكمها تحت وطأة الانفعال والغضب، خصوصاً أن الوضع الأمني كان يخضع لرقابة حليف سورية الرئيس آميل لحود.
ثم أنهى الأسد الحديث عن هذا الموضوع بانتقاله المفاجئ إلى مستقبل العلاقات اللبنانية – السورية.
بعد مرور فترة قصيرة من حدوث جريمة اغتيال رفيق الحريري، نشر أنصار الحريري سلسلة تساؤلات تتعلق بتصرف الدولة حيال الانفجار وتبعاته. وكانت سبباً لاتساع حلقة الشكوك بعد ظهور مؤشرات يصعب تفسيرها، ومنها: لماذا تأخر الرئيس آميل لحود في إعلان وفاة الرئيس رفيق الحريري؟… ولماذا استعجلت الدولة في تنفيذ عملية تنظيف مكان وقوع الجريمة، كأنها تسعى إلى طمس معالم الجريمة وتبديد الأدلة؟
في ضوء تلك التطورات، اكتشف الحريري أنه محاصر من قبل جميع الأحزاب والتكتلات البرلمانية، وأن الأزمة الاقتصادية الخانقة بدأت تهدد الاستقرار، خصوصاً بعدما تجاوز الدين العام مئة بليون دولار… وبعدما تعب حاكم البنك المركزي رياض سلامة من إخراج «أرانب» الحل من قبعته الواسعة.
وسط هذه التجاذبات السياسية والاقتصادية، ازدادت الضغوط على الحريري إلى حد المطالبة بكسر المقاطعة التي فرضتها الجامعة العربية على سورية يوم طردتها من عضويتها.
ورأى الرئيس المكلف أن مسؤوليته أصبحت أكبر من قدرته، لذلك طالب بفترة انتقالية ريثما تنتهي الأزمة الخانقة داخل سورية، وتنجح روسيا في تشكيل نظام جديد متفق عليه داخلياً وخارجياً.
أثناء إطلالته الأخيرة تحت عنوان «شموخ وانتصار»، أشار السيد حسن نصرالله في خطابه إلى «جماعة 14 آذار»، وإلى حملة التخويف التي تبثها بين الناس، مدعية أن المحكمة الدولية ستخلق وضعاً مستجداً في البلد سيبنى عليه شيء دراماتيكي!
وكما تصرف الأمين العام يوم اتهمت المحكمة الدولية أربعة أعضاء من جهاز «حزب الله» باغتيال رفيق الحريري… هكذا يتصرف قبل صدور الحكم المتوقع بعد العاشر من هذا الشهر. أي أنه يعتبر قرارات المحكمة مسيّسة، وأن أحكامها لا تعنيه على الإطلاق، وما يصدر عنها لا قيمة له.
وهكذا توقف فجأة عن الكلام أثناء إلقاء خطابه، ورفع سبابته في الهواء محذراً: «لا تلعبوا بالنار… لا تلعبوا بالنار!»
التفسير المحتمل لعبارة «لا تلعبوا بالنار»، يستند في نظر المحللين إلى إشاعات تقول إن المحكمة قد تصدر قائمة جديدة تابعة للكوادر الرفيعة في «حزب الله» كالنواب مثلاً! وقد ازدادت قناعة الحزب بهذا المنحى بعد الزيارة التي قام بها إلى بيروت موفد وزارة الدفاع الأميركية روبرت كاريم، وهو مكلف من قبل إدارة ترامب بمتابعة تنفيذ القرارات الأميركية في شأن دور إيران في لبنان وسائر دول المنطقة.
أثناء استقبال العماد عون للموفد كاريم، طالبه الرئيس اللبناني بتجديد ولاية يونيفيل من دون أي تعديل في مهمتها. وكان بهذا التأكيد يريد ألا تتطور مهمة القوات الأممية بحيث تتمدد شرقاً إلى الحدود مع سورية، وتسدّ المعبر الذي يشرف على إدارته «حزب الله» وإيران.
بقي السؤال الأول والأخير: ماذا يفعل الرئيس عون في حال وصلت عملية تشكيل الحكومة إلى حاجز يصعب تجاوزه؟
كان النواب يتوقعون تشكيل الحكومة مطلع هذا الشهر وبما أن هذا لم يحصل، فقد أعلن وزير الدولة لشؤون الرئاسة بيار رفول، أن مرحلة الانتظار لن تطول أكثر من شهر واحد.
ولكن المشرّع اللبناني لم يحدد المدة التي تنتهي فيها فترة التشكيل، الأمر الذي سيضطر الرئيس عون إلى مواجهة مجلس النواب والرأي العام بحقيقة المأزق الذي تعاني الدولة من جموده. ومن المتوقع أن يشترك في إيجاد المخرج الرؤساء الثلاثة، هذا إذا استطاع اللبنانيون احتمال نضوب الأوكسجين وهم تحت سطح البحر!