كتبت البروفسور غريتا صعب في صحيفة “الجمهورية”:
رغم عدم وجود اي دلائل للتوصّل الى حل سياسي للصراع في سوريا، يبدو ان السيطرة على العاصمة دمشق والمنطقة المحيطة بها وغيرها من المناطق منذ اندلاع الحرب الاهلية في العام ٢٠١١ أعطت النظام السوري زخمًا جديدًا يسمح له بالتطلع نحو اعادة بناء البنية التحتية والمدن المهدومة جراء النزاع.
هناك الكثير من الكلام حول عملية اعادة الاعمار في سوريا، علمًا ان ايران تبدو الدولة الوحيدة التي تعمل بنشاط من اجل بلوغ هذه الغاية. ويبدو التوصل الى حل سياسي ونجاح مفاوضات جنيف شرطا اساسيًا من الاتحاد الاوروبي والمجتمع الدولي من اجل دعم عملية اعادة الاعمار الى جانب المانحين والمؤسسات النقدية والمالية. وسبق لفريديركا موغيريني في نيسان الماضي أن أعلنت ان الاتحاد الاوروبي على استعداد للمشاركة في هذه العملية عندما تبدأ عملية السلام تحت اشراف الامم المتحدة.
وحسب المبعوث الخاص للامين العام للامم المتحدة ستيفان دي ميستورا ان عملية إعادة بناء سوريا سوف تكلف 250 مليار دولار بينما تقدّرها سوريا بـ ٤٠٠ مليار دولار. وسوف تستغرق العملية حوالي ١٥ عامًا حسب بعض المسؤولين الاميركيين. والسؤال الذي يطرح من اين ستتوفّر الاموال سيما ان اموال اميركا وحلفائها صرفت لتدمير سوريا، وقد تخلّت اميركا عن مسؤولية اعادة بناء البلاد تحت قيادتها الحالية، كما ان ترامب قرّر مؤخرًا تجميد جميع الاموال حتى في المدن السورية التي هي تحت سيطرة الاميركيين وحلفائهم الاكراد. كذلك وضع الكونغرس مؤخرًا ڤيتو على تقديم اي مساعدة الى المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية.
هذه العملية تذكّر الى حد بعيد بخطة مارشال وبناء القارة التي مزقتها الحرب، والتي تعتبرأنجح برنامج معونة خارجية في التاريخ. وخطة مارشال استخدمت مرات لا تحصى من الناس ذوي النوايا الحسنة في دول تواجه مهام اعادة اعمار مناطقها المنكوبة بالأزمات من اميركا اللاتينية الى البلقان والعراق وسوريا. ولا شك في ان خطة مارشال ساهمت كثيرًا في ترسيخ الانقسام في اوروبا والعالم سيما وان خطة مارشال ترمي الى الحد من انتشار الشيوعية في اوروبا، غير ان المؤرخين يختلفون حول حجم الدور الذي لعبته خطة مارشال في اوروبا وانتعاشها الاقتصادي رغم ان الولايات المتحدة كانت قد قدمت مساعدات سخية من المواد الغذائية والقمح الى اوروبا واليابان ما بين تموز ١٩٤٥وحزيران ١٩٤٦ بما يكفي لـ ٣٠٠ مليون شخص. هذا وحسب مارشال «من المنطقي ان على الولايات المتحدة ان تفعل كل ما يمكن وتساعد في عودة العافية الاقتصادية للعالم والتي بدونها لا يمكن ان يكون هناك استقرار سياسي ولا سلام.
لذلك، تبدو الصورة اليوم مشابهة كثيرًا لاوروبا بعد الحرب العالمية الثانية سيما وان الحكومة السورية على وشك استعادة البلد بأسره، ولكن الولايات المتحدة وحلفاءها يتردّدون في شأن الاستثمار في سوريا في إعادة بناء المناطق الخاضعة لسيطرة الأسد. يبقى ان هناك إحتمالا لوجود صفقات بين روسيا والولايات المتحدة تعيد معه مجال التعاون في عملية تقديم المساعدة للاجئين والمشردين مؤقتًا من منازلهم. لكن يبدو ان سوريا ومعها روسيا وايران فتحوا خطوط تواصل في شأن عملية الاعمار هذه، ورغم ان العمليات العسكرية لا تزال مستمرة في المناطق المؤقتة تحت سيطرة المعارضة وداعش الا ان فارس الكرتي مدير عام المؤسسة العامة للمعارض والاسواق الدولية صرح بأن معرض دمشق الدولي والذي أقيم في ١٧ آب ولاول مرة منذ بدء الثورة كان الهدف منه اعلان بداية لاعادة الاعمار. وحسب الصحف الرسمية فان سوريا باتت الآن جاهزة لمزاولة الاعمال.
في خضم هذا التهافت لاعادة اعمار سوريا قد يكون منطقيًا ان المستفيد الاكبر هما اقرب حليفان لسوريا اي روسيا وايران دون ان ننسى الصين. وقد مهّدت روسيا لذلك بابرام عقود يعتقد انها بقيمة مليار دولار اميركي وبعقود مربحة في قطاع النفط والغاز. اما ايران والتي طالما كانت داعمًا ماليًا رئيسيًا للنظام فقد ابرمت صفقات تجارية جديدة مع سوريا وشجعت مواطنيها على الانفاق بكثافة على العقارات ونراها تمتّعت بالحضور الاكبر في معرض دمشق الدولي مع اكثر من ٤٠ شركة ايرانية. ولا يخفى علينا دور الصين التي استضافت في بداية اب من هذا العام «اول معرض تجاري لمشاريع اعادة اعمار سوريا» والذي اعلنت من خلاله احدى المجموعات توقيع تعهد عربي-صيني بقيمة ٢ مليار دولار اميركي من الحكومة لبناء الحدائق الصناعية في سوريا. وعندما نتكلم عن حلفاء لسوريا في حربها لا بد من ذكر جيران سوريا الاقرب وهم الاردن ولبنان والذين يمنّنون النفس وتواقون للحصول على نصيبهم من كعكة اعادة الاعمار. وقد استضافت عمان مؤخرًا مؤتمرًا دوليًا لاعادة اعمار سوريا. ويقوم لبنان حاليًا بتوسيع مرفأ طرابلس لاستيعاب الطلب الهائل على مواد البناء، وقد تكون فرصة جدية للبنان للاستفادة من هذه العملية وعليه يجب ان ننظرالى الامور بجدية تامة نظرًا الى هذا التكامل الدائم الواقع بين لبنان وسوريا.
تبقى الارشادات لأنشطة اعادة الاعمار والتي قد تؤدي الى مفهوم اكثر شمولية انما اقل طموحًا من مقترحات «مشروع مارشال» مع احتمال تحقيق نتائج ايجابية للمواطنين السوريين. واهم هذه الارشادات:
١- توجيه تمويل عملية اعادة الاعمار وادارتها من قبل جهات فاعلة بشكل يعزز استقلالية هذه الجهات ومصداقيتها ويعكس احتياجات الداخل السوري.
٢- اتباع استراتيجية تركّز على عملية اعادة الاعمار بشكل يخفّف من الفساد والهدر وعدم الكفاءة.
٣- دراسة مُتقنة لعملية الاعمار بحيث لا تأتي المشاريع ضعيفة التصميم سيئة االتنفيذ.
وتعتبر هذه النقاط بمثابة معايير لتوجيه التصميم بطريقة تدعم تعافي سوريا دون الدخول بغوغائية المشاريع وسوء التنفيذ، وتبرز تحديات للجهات الفاعلة الخارجية والتي ستحاول جاهدة للمشاركة في اعادة اعمار سوريا.
ويقول المراقبون ان وتيرة العمليات العسكرية في سوريا ستتسارع ومن ثم يتمّ التحول الى اعادة الاعمار. ويجب ان تكون الدول المانحة الداعمة والقريبة على اتمّ الاستعداد كون عملية الاعمار هذه قد تكون الاكبر بعد اوروبا في العام ١٩٤٥ مع ما يرافقها من تحديات وما تفرضه من قواعد.