بعد أكثر من 100 يوم من الصراع على تشكيل الحكومة والأحجام والحصص داخلياً، وعلى الاتهامات للخارج بعرقة ولادة الحكومة، أسقط بيان كتلة “الوفاء للمقاومة” القناع عن حقيقة المواجهة المقبلة، عبر التأكيد أن “لبنان مدعو حكومة وقوى سياسية للاستفادة من تطورات الأوضاع في المنطقة لمراجعة تموضعه الاستراتيجي، ولإعادة النظر في بعض علاقاته الإقيمية والدولية”.
هذا الكلام ليس تفصيلاً، لا بل يشكل جوهر الصراع القائم اليوم بين من يسعى إلى الإبقاء على سياسة “النأي بالنفس” في محاولة لتحييد لبنان عن صراعات المنطقة ولو بالحد الأدنى، وبين قرار إيراني واضح بإعلان الانتصار في لبنان. هذا الانتصار الذي كان أعلنه قائد فيلق القدس في الحرس الثوري اللواء قاسم سليماني بإعلانه عن فوز محورهم بأكثرية 74 نائباً في مجلس النواب، وها هو بيان كتلة نواب “حزب الله” يطالب بتكريس هذا الانتصار في السياسة من خلال إعلان إعادة تموضع لبنان وانضمامه رسمياً إلى المحور الإيراني في مواجهة الولايات المتحدة والدول العربية في طليعتها السعودية والإمارات.
ولكم تشبه هذه المرحلة مرحلة ما بعد حرب تموز الـ2006 حين طالب الرئيس السوري بشار الأسد في خطاب شهير بمكاسب سياسية في الداخل اللبناني كنتيجة لهذه الحرب، وهو ما تمت ترجمته اعتباراً من كانون الأول 2006 باعتصام فريق 8 آذار في ساحة رياض الصلح، وصولاً إلى انقلاب 7 أيار 2008 الذي تُوّج باتفاق الدوحة، كل هذا المسار الذي أسقط عملياً “انتفاضة الاستقلال” وأجهز على “ثورة الأرز” ومنح حق الفيتو التعطيلي لقوى 8 آذار.
ويبدو أن المحور الإيراني- السوري يعتبر أن الفرصة مؤاتية اليوم لـ”الحسم” سياسياً بعد “انتصاره” في الحرب السورية وفي الانتخابات النيابية في لبنان، وذلك عبر انخراط لبنان رسمياً عبر حكومته الجديدة المرتقبة وبيانها الوزاري في هذا المحور وإعلان المواجهة مع المحور الأميركي- العربي.
هل يرضخ الرئيس سعد الحريري والقوى المواجهة للمحور الإيراني- السوري؟ الإجابة عن هذا السؤال ليست سهلة، وخصوصاً أن الاستجابة لمطلب “حزب الله” بإعادة التموضع تعني وضع لبنان في مواجهة مع المجتمع الدولي يكون غير قادر على تحمّل تبعاتها، بدءًا من تحوّل الحكومة اللبنانية المقبلة إلى “حكومة حزب الله” بالنسبة إلى المجتمع الدولي في حال تبنّت نظرية الحزب بـ”إعادة التموضع”، ما يستتبع ذلك من تعميم العقوبات المفروضة على الحزب لتصبح على لبنان كدولة ومؤسسات ومواطنين، إضافة إلى وقف المساعدات الأميركية للجيش اللبناني، وصولاً إلى المواجهة مع الدول الخليجية مع ما يعنيه ذلك من إمكان فرض مقاطعة على لبنان وتعريض مصالح اللبنانيين العاملين في تلك الدول إلى مخاطر لا تُحصى، وخصوصاً أن المثال القطري لا يزال ماثلاً أمامنا.
وهل يمكن للرئيس الحريري أن يرأس حكومة مواجهة مع المجتمع الدولي والعربي؟ وهل يمكن أن يشكل غطاءً لـ”حكومة حزب الله”؟ الواضح أن هذا الأمر ليس سهلاً على الإطلاق، ما يعني أن الصراع المقبل بعد تشكيل الحكومة، إن تشكلت، سيكون عنيفاً جداً على صياغة البيان الوزاري، كما على كل خطوة وقرار سياسي بعده، ما يستدعي من الحريري اليوم قبل الغد أن يعمل على تحصين موقعه داخل الحكومة المرتقبة عبر تأمين حداً أدنى من التوازن والمناصفة بين المحورين، وإلا فإن خيار تصريف الأعمال حتى إشعار آخر قد يكون الحل الوحيد المتاح منعاً للانهيار الشامل!