كتب محمد وهبة في صحيفة “الأخبار”:
في ذاكرة اللبنانيين، أن أي أزمة اقتصادية قد تنفجر في لبنان هي أزمة نقدية، حيث ينهار سعر صرف الليرة مقابل الدولار في ظل انعدام قدرة مصرف لبنان أو ضعفها، في لحظة ما، على الدفاع عن تثبيتها. تموضع مسبق كهذا، يدفع إلى الاعتقاد بأن الأزمات النقديّة مستقلّة عن الاقتصاد الحقيقي، وهي تحصل وتؤدي إلى انهيار الاقتصاد. الأسوأ من ذلك، أن هذا التموضع ارتقى فوق كل التقلبات والمشاكل السياسية حتى بات اقتصاد لبنان «مقاوماً للأزمات». تحت هذا السقف، كان يمكن إمرار كل أنواع الأزمات، وجرى تبرير مؤتمرات «الشحادة» من باريس ـــــ 1 إلى باريس ـــــ 3. قبل بضع سنوات، تبدّل المسار. حلّت كلمة الانهيار الوشيك محل «الاقتصاد المقاوم للأزمات». لا تعريف واضحاً لهذا الانهيار، رغم أن هذه المفردة أصبحت سلاح السياسيين في معاركهم السياسية المفتوحة. أما المؤشرات الظاهرة في الاقتصاد الحقيقي، فهي واضحة بحدّتها السلبية. لبنان يقترب من عين العاصفة. السؤال المطروح هو إذا كانت هذه العاصفة ستضرب القطاعات، أم أنها ستكون نقدية؟ بمعنى آخر، هل ستكون الكلفة الاقتصادية للحفاظ على سعر الصرف أكبر من كلفة انهياره؟
في فترة ما بعد الأزمة المالية العالمية في نهاية 2008، صار «الاقتصاد المقاوم للأزمات» أكثر وضوحاً. محلياً، جاءت هذه الأزمة بعد انقسام سياسي عمودي بين القوى الحاكمة وشوارعها. قبلها بسنتين، كانت حرب تموز بكل تداعياتها، وقبلها بسنة اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري… مع نهاية كل أزمة سياسية، كان هناك من يسوّق بأن «مناعة» لبنان أقوى، حتى إنه بات يشكّل ملاذا آمناً للأموال الهاربة من الأزمة المالية العالمية. وبالفعل، تدفق إلى لبنان خلال 2009 و2010 نحو 29 مليار دولار. معظمها أتى لـ«الاحتماء» من ارتدادات الأزمة العالمية. يومها، تحوّل النظام المالي في لبنان إلى «سوبرمان» لا تخدشه أي أزمة ولا يؤثّر فيه أي إعصار.
لم يطل الوقت قبل أن تبدأ هذه الأسطورة بالانهيار. مع اندلاع الأزمة السورية في ربيع 2011، وأثرها الكبير على اقتصاد لبنان، ومن ثم انتعاش الاقتصاد العالمي وعودة الفوائد الأميركية إلى الارتفاع، بدأ الشكّ يتسرّب حول قدرة النموذج الاقتصادي اللبناني على الصمود في مواجهة التداعيات. في نهاية 2016، بدأ مصرف لبنان يعاني من عجز ميزان المدفوعات المتراكم، وهو الذي يعبّر عن ضعف تدفق الأموال، أي أن الأموال التي تخرج من لبنان أكبر من تلك التي تدخل إليه. نفذ البنك المركزي هندسات مالية مثيرة للريبة. تبعتها هندسات إضافية في 2017، وعمليات على هامش هذه الهندسات مثيرة للريبة أيضاً، ولا سيما أنها أدّت إلى زيادة قيمة سندات اليوروبوندز المدرجة في الأسواق العالمية إلى أكثر من 9 مليارات دولار، وبالتالي صار الدين اللبناني أكثر هشاشة وانكشافاً على مخاطر الأسواق الخارجية.
النقاش في هذا المجال يقفز بسرعة من الوضع المالي والدين العام اللبناني، إلى قدرة مصرف لبنان على السيطرة عليه. هل يملك مصرف لبنان فعلاً احتياطات بالعملات الأجنبية أكثر من 44 مليار دولار، أو ما يوازي قيمة سنتين من الواردات؟ هل يكفي هذا المؤشر للقول إن الوضع ممسوك؟ كل هذه الأسئلة متصلة بسيناريو أساسي: إذا كان الوضع السياسي والأمني مستقراً في لبنان، فإن القدرة على السيطرة على ثبات سعر الصرف تبدو محتملة أكثر. أما في حال أي تطوّر مشابه لما حصل يوم اختطاف رئيس الحكومة سعد الحريري في تشرين الثاني 2017، أو أي حدث بهذا المستوى، فإن كل هذه الأرقام والتقديرات والمعادلات عن الصمود تصبح مجرّد كلام دعائي فقط. لا يمكن التنبؤ. مصرف لبنان يحتاط. الأزمات والانهيارات أمر متدحرج ومعقد، ولا يسهل قياسه أو تقديره.
الاقتصاد والنقد، في الواقع، هما أمران مرتبطان. المؤشرات الاقتصادية تقول إن الأزمة بدأت فعلاً ويمكن قراءتها بسهولة. طبيعة الأزمة المرتقبة وشكلها لن يبقيا ملتبسَين كما هما عند التنبؤ. في النصف الأول من عام 2018، شهدت محفظة التسليفات المصرفية تراجعاً بقيمة 500 مليون دولار. هو التراجع الأول من نوعه بعد سنوات من النموّ. أسعار الفوائد بدأت ترتفع على الودائع بالليرة والدولار إلى مستويات كانت سائدة قبل أكثر من 18 عاماً. الفائدة على الليرة وصلت إلى 15% والفائدة على الدولار إلى 9%. مصرف لبنان حدّد سقفاً للتسليفات بالليرة يجب ألا يتجاوز 25% من قيمة ودائعها بالليرة، وتبيّن أن المصارف تجاوزت بشكل عام هذه النسبة (باستثناء بضعة مصارف بالمفرق)، أي أنه لن يكون هناك أي تسليفات بالليرة حتى نهاية 2019 إلا في حال حصول معجزة وتدفق عشرات مليارات الليرات كودائع إلى المصارف اللبنانية. مصرف لبنان يريد أن يركّز على القروض بالدولار، حتى إنه طلب من المصارف الضغط على المقترضين المتعثّرين لإعادة جدولة ديونهم إذا وافقوا على تحويلها من الليرة إلى الدولار.
ومن المؤشرات أيضاً أن الشيكات المتقاصة (المتبادلة) سجّلت تراجعاً في قيمتها من 33.7 مليار دولار في نهاية حزيران 2017 إلى 32.8 مليار دولار في نهاية حزيران 2018، أي بتراجع قدره 900 مليون دولار (2.5%)، معظمها من الشيكات المحرّرة بالدولار. أما الشيكات المرتجعة، فقد ارتفعت بنسبة 5.7% خلال النصف الأول من 2018 بزيادة قيمتها 50 مليون دولار. في النصف الأول من 2017 ارتجع 112 ألف شيك، وفي النصف الأول من 2018 ارتجع 130 ألف شيك.
معدلات تضخم الأسعار ارتفعت في النصف الأول من السنة الجارية إلى أكثر من 7% بعد معدل مقبول في السنة الماضية، ومعدلات سلبية في السنوات التي سبقتها. وبحسب إدارة الإحصاء المركزي، فإن كلفة الغذاء والمشروبات ارتفعت بنسبة 5.8%، والإيجارات القديمة ازدادت بنسبة 9.5%، والإيجارات الجديدة ازدادت بنسبة 3.2%. أما النقل، فقد ارتفع بنسبة 11.9%، والاستجمام والتسلية بنسبة 8%، والتعليم بنسبة 4%، أما الأحذية والملابس فقد ازدادت بنسبة 16%.
المشكلة أن مؤشرات البطالة غير متوفرة إحصائياً في لبنان، وإذا توافرت تكون غير دقيقة وفيها الكثير من الأخطاء المنهجية، وهذا الأمر ينطبق على الكثير من الإحصاءات المتعلقة بالمؤشرات الاقتصادية ـــــ الاجتماعية، مثل الاستهلاك والأكلاف المرتبطة به. رغم ذلك، تبدو الأرقام الأخيرة عن البطالة مؤذية. البطالة بين الشباب قبل سنتين ارتفعت إلى أكثر من 30%.
كذلك انخفض عدد الصفقات العقارية المسجلة في الدوائر العقارية بنسبة 18% من 33584 معاملة في النصف الأول من 2017 إلى 27472 معاملة في النصف الأول من 2018.
إلى جانب هذه المؤشرات الظاهرة، هناك مؤشرات مكتومة في السوق. بحسب بعض التقديرات، فإن حجم الديون المستترة قد يزيد على 6 مليارات دولار، وهي عبارة عن ديون بين التجار غير مسجلة في الدفاتر المصرفية، أي أنها فواتير غير مسدّدة بين التجّار. نسبة الديون المتعثّرة أو المشكوك بتحصيلها من هذه الديون المستترة كبيرة جداً مع فترات تأخّر في السداد قد تصل، بحسب مصادر تجارية، إلى أكثر من 6 أشهر. أما نسبة الديون المتعثّرة المصرّح عنها أو المسجّلة لدى المصارف، فهي لا تزال تقدّر بنسبة أقل من 6%. ومردّ ذلك أن المصارف كانت خلال الفترة الماضية تعيد جدولة ديون الزبائن وتمتنع عن خفض تصنيفها الائتماني. وهذا الأمر، كانت بعثة صندوق النقد الدولي قد لمحت إليه في آذار الماضي بالإشارة إلى ضرورة «تحسين مراقبة التحولات في تصنيف القروض استناداً إلى معدلات الخسارة على مستوى البنوك، وتشجيع إعادة هيكلة القروض المتعثرة على أساس مستدام». الصندوق يتحدث عما يجب فعله، أي أن الوضع القائم هو بالعكس تماماً. فإعادة الهيكلة تتم على أساس غير مستدام، وهذا يعني أن الزبائن يواجهون صعوبة في السداد ولا أفق واضحاً لإمكانية السداد، لكن تجري إعادة جدولة القروض تهرّباً من تصنيفها ديوناً متعثّرة أو مشكوكاً بتحصيلها.
كل ذلك يجري في «الاقتصاد المقاوم للأزمات»، حيث تكثر التكهنات عن الانهيار المقبل. الكل يرى أنه انهيار نقدي، لكن لا أحد لديه توقعات حاسمة عن انهيار كهذا في وقت قريب أو بعيد. ورغم أن هناك اتفاقاً على وجود اختلالات مالية قد تتحوّل سريعاً إلى أزمة نقدية، إلا أن المؤشرات الحالية تشير إلى أن لبنان يشهد انهياراً اقتصادياً حاداً، ولم يتحوّل الأمر بعد إلى أزمة نقدية. بعض الخبراء يرون أن هذه الأزمة ليست إلا تعبيراً عن اختلالات عميقة في بنية النظام اللبناني، أي أنها أزمة نظام بكامله، في أدواره السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ركائزه ووظائف قطاعاته… كلها مأزومة. هو نظام قائم على تدفقات خارجية لم تعد متوفرة كما في السابق. وهو نظام قائم على استقطاب السياح الخليجيين وأثريائهم الذين باتوا يرغبون أكثر في السفر إلى أوروبا وتركيا وقبرص. الخليجيون يخلطون أيضاً بين سياحتهم وبين أعمالهم في تجارة العقارات. دور لبنان في المنطقة أصبح مختلفاً. سيناريوات استخراج النفط من البحر وإعمار سوريا ليست واضحة هي أيضاً. أي دور لهذا النظام بقي باستثناء دوره في مقاومة العدو الاسرائيلي؟ هكذا بات الحديث عن أزمة اقتصادية أمراً واقعاً من دون أن تظهر حدودها وحدّتها بشكل واضح، إلا أنها بالتأكيد ليست أزمة في الأسواق المالية وليست أزمة ناجمة عن خلل أو مرض عابر في النظام، وليست أزمة ظرفية.
في المقابل، لا أحد يعتقد بأن هناك قدرة على مواجهة الأزمة واستباقها. مصادر مصرفية مطلعة، قالت إن هناك محاولات لتهريب بعض رؤوس الأموال في استثمارات عقارية. كذلك أوضحت المصادر، أن هناك مصرفيين يعملون على التخفيف من زيادة منسوب الديون المتعثّرة من خلال استيفاء العقارات مقابل الديون، ولم يعد مهماً بالنسبة إليهم الحفاظ على محفظة عقارية ضمن مستوى محدّد مسبقاً. المشكلة التي تواجه بعضهم أن بعض العقارات مخمّنة بأعلى من قيمتها السوقية الفعلية التي تقل عن قيمة الدين، وهو أمر كان صندوق النقد الدولي قد أشار إليه سابقاً عند تقويم الوضع المالي في لبنان، مشيراً إلى أن الديون المصرفية والضمانات العقارية مبالغ في تخمينها.
رغم ذلك، تعتقد بعض المصارف بأن لديها حماية واسعة كون جزء من رؤوس أموالها بالدولار، ولديها تأمين عليها، لكنْ ثمة اعتقاد واسع بأن أي انهيار مالي بعد هذه الأزمة الاقتصادية سيكون ساحقاً، والنجاة منه غير متوقعة. أمل بعض المصرفيين أن يكون خيط النجاة على حساب الآخرين، أي أن يتم تحرير سعر صرف الليرة استباقياً، فتبقى بعض المكاسب، لكن عندها من يدفع الثمن هو الذي يقبض راتبه بالليرة ومن لديه مدخرات بالليرة. أي تحرير لسعر صرف الليرة من دون اتفاق مسبق مع الدائنين على آلياته وتوزيع ثمنه وكلفته، له نتيجة واحدة فقط. شركات القطاع الخاص ستدفع ثمناً باهظاً أيضاً. فهي تستورد المواد الأولية والسلع الجاهزة بالعملات الأجنبية وتجبي ثمن مبيعاتها بالليرة. أيّ حماية يمكن هذه الشركات أن تنالها في مواجهة المجهول؟ هي لا تعرف أصلاً عمق الأزمة ومدى قربها وشدّة حدّتها. ليس لديها مؤشرات واضحة لقراءتها. الأرقام والإحصاءات في لبنان شبه ممنوعة.