كتب طارق ترشيشي في صحيفة “الجمهورية”:
لم يقدم أيّ من المعنيين بالاستحقاق الحكومي منذ التكليف وحتى الآن، كما في استحقاقات سابقة مماثلة، أيّ تبرير مقنع للبنانيين، حول الاسباب الفعلية التي تؤخر، بل تعوق، منذ اكثر من ثلاثة أشهر تأليف الحكومة العتيدة.
وفي غياب هذا التبرير المقنع المطلوب يغزو الاوساط السياسية والشعبية تفسيران لهذا التأخير، الاول هو الوضع الاقليمي المأزوم والذي ينذر بجولات تصعيد جديدة على مختلف الجبهات المشتعلة، ويقول اصحاب هذا التفسير انّ الاطراف الاقليمية المعنية لا مصلحة لأيّ منها بولادة حكومة لبنانية لا تكون تركيبتها داعمة لها، فالولايات المتحدة الاميركية إضافة الى حلفائها الاقليميين يريدون حكومة ترفع الغطاء عن «حزب الله» وحلفائه وعلى رأسهم ايران، خصوصاً في حال تفجّرت الاوضاع في لبنان والمنطقة عموماً. وفي المقابل، إنّ ايران وحلفاءها يريدون حكومة تغطي «الحزب» وتغطيهم جميعاً، خصوصاً أنهم يعتبرون أنفسهم قد انتصروا في كل المعارك على كل الجهات في المنطقة، وان المستقبل هو لمحورهم.
أما التفسير الثاني، فإنّ أصحابه يحصرون أسباب تأخر الولادة الحكومية بالخلافات المستحكمة والدائرة بين الافرقاء السياسيين المعنيين حول الحصص من المقاعد الوزارية، وكذلك حول نوعية الحقائب التي ستعطى لكل فريق منهم، فضلاً عن الخلاف على الثلث، أو الأثلاث المعطِّلة. ويعتبر هؤلاء انّ تذرّع البعض بالاوضاع الاقليمية إنما الغاية منه هو التعمية عن مصالح واهداف الجهات الخارجية من تأخير التأليف، وكذلك هروب هذا البعض الى الأمام والتملّص من اعطاء الحقوق التمثيلية لأصحابها في ضوء نتائج الانتخابات النيابية الاخيرة التي جرت وفق النظام الانتخابي النسبي.
أصحاب التفسير الاول يقولون انّ حلفاءهم الاقليميين يؤكدون ان المواجهات الاقليمية الكبرى آتية، وستدور خصوصا بين الولايات المتحدة الاميركية وحلفائها من جهة، وبين ايران وحلفائها، وربما تكون روسيا بينهم، من جهة أخرى. ولذلك لا يريد الاميركيون ان تكون الحكومة اللبنانية الجديدة بتركيبتها نوعياً او عددياً «طابِشة» لمصلحة «حزب الله» وايران وحلفائهما، لأنها في هذه الحال ستكون بكل مكوناتها السياسية «عدوة» للولايات المتحدة الاميركية، من وجهة نظر واشنطن.
أمّا أصحاب التفسير الثاني فيقولون انّ ايران وحلفاءها يشعرون في ضوء التطورات المتلاحقة، انّ ساحات المنطقة ستشهد مزيداً من التصعيد في قابل الاسابيع والأشهر. ولذلك يرغبون، بل يدفعون، في اتجاه ان تكون الحكومة العتيدة بتركيبتها ضامنة لهم، وخصوصاً لـ«حزب الله».
ولذلك، يقول سياسيون متابعون لحركة التأليف الحكومي المتعثرة، انّ حكومة الـ«نص – نص»، اي المناصفة السياسية لا تحل الأزمة، لأنّ أيّاً من الافرقاء المعنيين لا يقبل بأن يكون له نصف الحكومة من الوزراء والوزارات، وإنما يريد للكفّة ان تكون «راجحة» لمصلحته.
لكن حكومة من هذا النوع يستحيل ان تؤلف في بلد ثَبُتَ ويَثبُت كل يوم أنه لا يُحكم إلّا بـ«التوافق» وبمنطق التسويات، وهو ما يُعبَّر عنه دوماً بتأليف حكومات متوازنة تسمّى حكومات «وفاق وطني» و«وحدة وطنية» و«مصلحة وطنية» و«استعادة الثقة» لا تسود فيها غلبة فريق على آخر، و«الثلث» المعطّل يكون متوافراً للفريقين فيها، ويضمن استمرارها، لأنّ استخدام اي فريق هذا الثلث لإسقاط أي حكومة لم يحصل الّا مع حكومة الرئيس سعد الحريري مطلع 2011 ولمرة واحدة فقط ولم يتكرر منذ ذلك الحين، لأنّ هذا الامر صار بعد ذلك «سلاحاً ذو حدين» فتلويح هذا الفريق بالتعطيل يقابله تلويح مماثل من فريق آخر، الامر الذي أقام «توازن رعب»، إذا جاز التعبير، باتَ سر استمرار كثير من الحكومات منذ العام 2005، وذلك على رغم افتقاد بعض هذه الحكومات «الميثاقية» نتيجة استقالة طوائف منها، ولاسيما منها حكومة الرئيس فؤاد السنيورة الذي استقال الوزراء الشيعة منها وذهب رئيس مجلس النواب نبيه بري يومها الى حد وصفها بـ«الحكومة البتراء»، ولكنها استمرت «مبتورة» الى حين انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية في 25 ايار 2008 على أساس «اتفاق الدوحة» الشهير، الذي أعاد السنيورة مجدداً على رأس حكومة جديدة.
على انه وفي ظل التعقيدات القائمة، فإنّ الازمة الحكومية تبدو انها ما تزال عصيّة على الحل ومرشّحة للاستمرار الى مدى طويل، خصوصاً اذا لم يبادر الافرقاء المعنيون الى تقديم تنازلات متبادلة يحضّهم عليها رئيس مجلس النواب نبيه بري، لأنها تشكل في رأيه السبيل الوحيد للاتفاق على الحكومة العتيدة.
ولكنّ الأفق الاقليمي يبدو مظلماً في هذه الايام، وتسود لدى مختلف الاوساط المتهمة مخاوف من ان تشهد المنطقة عاجلاً ام آجلاً، صداماً سيكون قُطباه الولايات المتحدة الاميركية واسرائيل من جهة، وايران مع حلفائها، وربما تكون روسيا بينهم، من جهة ثانية. وتتوقع هذه الاوساط ان يكون المخطط الاميركي ـ الاسرائيلي مهاجمة الايرانيين و«حزب الله» في سوريا ولبنان، وربما مهاجمة ايران على أراضيها. وفي حال حصل هذا الصدام فإنّ لبنان والمنطقة سينتقلان بعده الى واقع جديد لا يمكن التكهّن بطبيعته من الآن. ولذا، يقول البعض انّ هذا الصدام المحتمل والرهانات المتبادلة عليه، ربما هما السبب الرئيس، والسر الكامن، خلف عدم حصول الاتفاق اللبناني الداخلي على ولادة الحكومة الجديدة.