كتب صهيب عنجريني في صحيفة “الأخبار”:
قصّة الحب التي جمعت «جبهة النصرة» وأنقرة وصلت إلى الفصل الأخير. فعلى رغم أنّ «الحبّ» لم يمُت، فإنّ الظروف المحيطة قد حتّمت إنهاء القصّة بخاتمة «غير سعيدة». أما «الثّمن الفادح»، فسيدفعه شخصٌ بعينه هو أبو محمّد الجولاني، لا سيّما أن معطيات كثيرة قد تفرض على أنقرة التضحية بأحد أبرز حلفائها في الحرب السوريّة، وهو أمر مرجّح.
بقي أبو محمد الجولاني حتى الرّمق الأخير متمسّكاً بعلاقته «المثالية» مع أنقرة، وها هو اليوم يستعدّ لتسديد فاتورة باهظة لـ«الوله التركي». حظي الجولاني في بدايات صعوده بحلفاء كُثر، إقليميين ودوليين، لكن الأحضان القطرية والتركية كانت الأشد دفئاً على الإطلاق! تناوب اللاعبان على دعم الرجل و«نُصرته» استخبارياً ومالياً في كلّ مراحل الصعود والهبوط التي اختبرها على امتداد سبع سنوات. وعرفت «جبهة النصرة» أزمات كثيرة، لكنّ «الظهر» كان حاضراً للاستناد إليه دائماً. أخطر تلك الأزمات كانت «الحرب الأهلية الجهادية» التي خاضتها ضد تنظيم «داعش» وكادت تودي بها. عام 2014، وأمام استعار الهجمات ضدّ معقله الأخير في دير الزور، انتقل الجولاني إلى داخل الأراضي التركية «بحثاً عن ملاذ آمن موقت»، قبل أن يُعاد ترتيب الأوراق، ويجد طريقَه إلى إدلب، (المفارقة أنّ ثاني الأزمات خطورة لم تكن «فك الارتباط» بالتنظيم الأم «القاعدة»، ولا حتى الخلاف الذي استعر بين الجولاني وأميره أيمن الظواهري، بل انحسار الدور القطري في الملف السوري واقتصار ما يمكن أن تقدّمه الدوحة على الدعم المالي فحسب (وبالحدود الدنيا.)
ومع انفراد تركيا من بين الداعمين الإقليميين للمجموعات المسلحة بالقدرة على لعب دور فاعل في المشهد، انخفضت قدرة الجولاني على المراوغة، وبات مضطراً إلى تقديم تنازلات متتالية أقنع نفسه بأنّها تندرج ضمن إطار «البراغماتية». وعلى خُطى «داعش» الذي رافق من قبل الأرتال التركيّة وحماها، سارت «النصرة» وأمّنت الحماية اللازمة للجيش التركي إبّان إنشاء نقاط المراقبة في إطار توافقات «أستانا». لكنّ تلك الخطوة التي أُقنع الجولاني حينها بأنّها تهدف إلى تأمين حماية لـ«الجهاد الشامي» في الدرجة الأولى، لم تمنحه سوى أمان موقّت. ولم تُتح الظروف الميدانية ولا السياسيّة لأنقرة القدرة على التنصل من التزامات «أستانا» وقصرها على ما وعدت به حليفها «الجهادي»، لتجد نفسها أخيراً مضطرة إلى تصنيف «هيئة تحرير الشام» على لوائح «المنظمات الإرهابية». نتيجة لهذه الخطوة باتت هذه هي المرة الثانية التي يُعدّ فيها الجولاني زعيماً لجماعة إرهابية وفق التصنيفات التركية (المرة الأولى كانت مطلع 2017، حين تم تصنيف «جبهة فتح الشام/ النصرة» جنباً إلى جنب مع تنظيم «داعش» منظمتين إرهابيتين). وبات معلوماً أنّ التصنيف الأول لم يغير شيئاً في التعامل بين أنقرة والجولاني، لكأنّ معطيات عدة تحول دون تكرار السيناريو نفسه اليوم، ويأتي على رأسها أن الرجل لم يعُد مؤهلاً للعب دور محوري في المشهد المستقبلي القريب. غير أن ذلك لا يعني بالضرورة التضحية بالجولاني نهائياً، بل يفتح الباب أمام منحه «إجازة جهادية» طويلة، مع الأخذ في الاعتبار إمكان استثماره في مراحل لاحقة.
تفرض هذه «التضحية» نفسها نظراً إلى «الرمزية» التي حظي بها الجولاني إلى حدّ اقتران «فتح الشام» بشخصه من دون سواه. وتؤكد مصادر «قيادية» سابقة في «النصرة» أن «قيام تركيا بإدراج الهيئة (تحرير الشام) في لوائح الإرهاب لم يكن مفاجئاً للجولاني، بل إنّه تمّ بالتنسيق التام معه». وتفيد المصادر بأن «هذا الخيار كان واحداً من اثنين وضعتهما أنقرة أمام الجولاني، أما الخيار الثاني، فهو إعلانه حلّ الهيئة». ووفقاً للمصادر، «الصيغة التي طُلب من الجولاني إعلان الحل وفقها كانت أشبه بصيغة إعلان هزيمة، وهو ما لم يقبله بسبب عجرفته المعهودة». وتشير معلومات «الأخبار» إلى أنّ «جهوداً كبيرة قد بذلها الجولاني وأفراد دائرته الضيقة لإيجاد تسوية مع «القاعدة» تتيح لهم العودة إلى كنفه، في الشام أو في ملاذات أخرى. وحتى الآن، لا يبدو أن لتلك الجهود حظوظاً في النجاح بفعل العداوات الكثيرة التي راكمها الجولاني على وجه الخصوص مع عدد من القياديين في التنظيم الأم. يضاف إلى ذلك أنّ زعيم التنظيم، أيمن الظواهري، «بات على يقين تام بأن الجولاني صبيّ غير جدير بالثقة»، على حد تعبير مصدر «قاعدي» سوري.
أمام هذه المعطيات يبدو التصنيف الأخير مؤهلاً ليكون مفتاحاً لـ«إعادة تدوير جهاديي النصرة». وبدأت بالفعل نتائج الخطوة التركية في التمظهر في صورة انشقاقات معلنة وسرية عن «تحرير الشام»، في ما يشكل هدية قيمة لتنظيم «حراس الدين»ـ إذ ورث الأخير «راية تنظيم القاعدة في بلاد الشام»، وانهمك في هيكلة صفوفه استعداداً للعب أدوار أشدّ فعالية في المشهد «الجهادي».
«إعادة التدوير» بدأت
تُظهر أنقرة حرصاً خاصاً على تجنب خسارة ورقة «الجهاديين» سواء بسبب ما يمثلّه «الأنصار» (السوريون) من قوة عسكرية مؤثرة يمكن استثمارها لدعم مجموعات أخرى، أو ما يمثله «المهاجرون» من مكاسب استخباراتية صالحة للاستثمار سواء عبر تسليم بعضهم لدولهم أو توفيرهم لجولات إقليمية مستقبلية محتملة. وتطمح الاستخبارات التركية إلى استنساخ تجربة سابقة لها في «إعادة تدوير جهاديي داعش» بدأت تنفيذها بالشراكة مع نظيرتها الأميركية، قبل أن «تستقل» عنها. وتقوم التجربة على فرز «الجهاديين» بين سوري يُمكن استثماره في المستقبل القريب في صفوف بقية المجموعات المسلحة، و«مهاجر» يُشكّل كنزاً استخباراتياً صالحاً للاستثمار في المستقبل البعيد، أو لتسليمه لدولته وفق اتفاقات أمنية سرية (راجع «الأخبار» 10 كانون الثاني 2017).
وتفيد معلوماتٌ حصلت عليها «الأخبار» بأنّ اثنين من «مراكز الاستقطاب» التي عملت بفعالية في مرحلة «تدوير جهاديي داعش» قد باشرا بالفعل استقبال عدد من المنشقّين عن «هيئة تحرير الشام». ووفقاً للمعلومات حُصرت مهام الاستقطاب بـ«فيلق الشام» من دون سواه، بفعل ارتباطه الوثيق بأنقرة، واستناداً إلى «الكفاءة التي أثبتها الفيلق في العمليّة الماضية».
المقدسي يشمت بالجولاني وأعوانه
لم يدّخر المنظّر «الجهادي» أبو محمد المقدسي الفرصة، فسارع إلى إظهار الشماتة بـ«تحرير الشام» على خلفية التصنيف التركي لها جماعة إرهابية. وخط المقدسي تعليقاً على الحدث، سمّاه «التبصر بـ(الرئيس التركي رجب طيب) أردوغان بعد فوات الأوان» سخر فيه من موجة الشتائم التي انتشرت أخيراً ضد أردوغان في بعض الأوساط «الجهادية».
المقدسي الذي يُعد أحد المؤثرين الفعالين في رسم «أدبيات القاعدة»، استشهد في تعليقه بالمثل العربي القائل: «أوسعناهم شتماً وفازوا بالإبل»، في إشارة إلى أن الشتائم لن تضر أنقرة بشيء ما دامت قد قطفت الثمار وحقّقت ما كانت تسعى إليه. وقال إنّ «شتم تركيا الآن، والكلام في أردوغان وادّعاء التبصّر به بعد فوات الأوان، والانسحاب من مدحه بخفّة وهدوء وسط الضجيج، من دون التبرؤ من الأخطاء والاعتراف بها، لن تُخْلي من ضَلَّلوا الأتباع من المسؤولية». وخصّ المقدسي، المقيم في الأردن، «من كانوا يتفلسفون علينا حين نتكلم في تركيا ورئيسها الملهم عندهم، والخليفة الذي سيُعيد أمجاد الخلفاء الراشدين عند بعضهم، ويزعمون أننا لا نفقه بالسياسة؛ وليس عندنا شيء من الكياسة؛ نُراعي به التوقيت في كلماتنا».