كتب عمر نشابة في صحيفة “الأخبار”:
أزمة السجون في لبنان لا تراوح مكانها، بل تتفاقم. وقد بدأت نتائجها تظهر مع إخلاء سبيل نزلائها وتخطيط بعضهم للشروع في هجمات إرهابية تستهدف المواطنين الآمنين. ومع ازدياد عدد السجناء في لبنان نحو 1500 سجين منذ عام 2015، يصبح الخطر حتمياً. إذ إن «كليات الإجرام»، خلف الجدران، تستقطب الشباب وتجندهم لنيل «شهادة» في سفك الدماء
كلّت الألسن من تكرار الحديث عن خطر حشر الجناة في أقفاص ضيقة، من دون برامج جدية لتصحيح سلوكهم الجنائي ومن دون احترام أبسط متطلبات الحفاظ على الكرامة الإنسانية. وها نحن اليوم نحصد ثمار القهر والتعذيب والفساد والنقص الفاضح في الاحتراف والمهنية والإدارة السليمة، مع «تخرّج» طلائع الشباب المتحمس للإرهاب والقتل والتفجير والتهريب والنهب والاعتداء من السجون لتعاود نشاطها الإرهابي. والمسؤولية، هنا، لا تقع على المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، ولا تنحصر بوزير الداخلية وحده على رغم خضوع السجون لسلطته بحسب مرسوم تنظيم السجون (14310/49)، بل تقع على كل القوى السياسية الحاكمة من دون استثناء، لا من أعلى الهرم إلى أسفله، بل أفقياً في بلد «ضاعت الطاسة» فيه، وضاعت معها آليات المساءلة والمحاسبة.
في أواخر آب الفائت، أوقف فرع المعلومات في وحدة الأركان التابعة للمديرية العامة لقوى الأمن الداخلي شاباً كان يخطط لـ«استهداف كنيسة بعملية انغماسية» ولتنفيذ «عمليات إرهابية ضد عناصر وحواجز الجيش اللبناني في الشمال». بدا للمحققين أن الشاب ينتمي إلى «داعش»، وأنه على تواصل مع أشخاص في سوريا ينتمون إلى التنظيم المذكور. واللافت أن الموقوف، وهو لبناني من مواليد 1995، «تخرّج» من السجن المركزي في رومية مطلع عام 2017، بعدما دخله في سن التاسعة عشرة، وأمضى فيه ثلاث سنوات من التلقين والتدريب والقهر والإذلال في أماكن مرعبة يتحكم بها «شواويش» (سجناء نافذون) ينتحلون صفة الآلهة، بدل أن يقضي عقوبة سجنية تهدف إلى إصلاح سلوكه الجنائي أو ردعه عن تكرار الجريمة (بعض القيمين على الأمن في لبنان لا يزالون ينتهجون الردع لقمع الجريمة بينما يصنف ذلك نهجاً رجعياً فاشلاً في علم الجريمة الحديث).
خلال التحقيق معه، «أبدى (الموقوف) حماسة كبيرة للتنفيذ واستعداداً لاستهداف حواجز الجيش اللبناني والكنائس، وكان ينتظر أن يرسل له قريبه الحزام الناسف والأسلحة». كما تبيّن أن الشاب كان من «المتفوقين» في «جامعة رومية»، إذ إنه سعى إلى تجنيد شاب آخر يبلغ 19 سنة (بحسب بيان قوى الأمن الداخلي) للاشتراك معه في تفجير كنيسة والاعتداء على الجيش.
لكن اللافت في بيان قوى الأمن هو تحديد ظروف توقيف الشاب «في إطار عمليات الأمن الوقائي والاستباقي التي تنفذها شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي»، من دون أن يتنبه كاتبه إلى أن «الأمن الوقائي والاستباقي» يكون من خلال تصحيح السلوك الجنائي في المؤسسة السجنية نفسها التي تديرها قوى الأمن الداخلي لا بعد إخلاء السبيل.
زيادة العدد وتضاعف العجز والإهمال
على رغم زيادة عدد السجناء المحشورين أصلاً في سجون تضيق بهم، لا تزال الدولة عاجزة عن إصلاح الخلل في معالجة الأزمة. ولا يزال الاستهتار الرسمي والإهمال الحكومي سيّدي الموقف. مجموع عدد السجناء في لبنان خلال آب المنصرم وصل إلى 6630 في مقابل 6457 عام 2017، و6322 عام 2015، و5061 عام 2012. ويشير ذلك إلى زيادة تصاعدية تصل إلى نحو 1500 سجين منذ عام 2015، فيما لا توجد خطة وطنية شاملة للإصلاح بعد فشل الخطة الخمسية التي وضعتها الحكومة عام 2008 ومددت أجلها من دون جدوى عام 2011. فلا جديد لدى الرؤساء والوزراء والمدراء الذين ما زالوا يعتبرون إصلاح النظام العقابي وإنشاء المؤسسات الرسمية المتخصصة في إدارة المرافق العقابية أمراً لا يستأهل الاهتمام ولا يستحق عدّه من الأولويات.
وفيما يجهد بعض ضباط قوى الأمن الداخلي وقائد سرية السجون وبعض القضاة، وعلى رأسهم القاضي المعين على رأس المديرية «الشكلية» للسجون في وزارة العدل (إذ إنها لا تتولى فعلاً إدارة السجون) لتحسين الأوضاع وتخفيف المعاناة، بمساعدة الأمم المتحدة وبعض الجمعيات غير الحكومية، يبقى كل ذلك أشبه بحبة «بنادول« لمريض يعاني التهابات حادّة في مختلف أنحاء الجسد.
نادي الجناة يضم أبرياء قيد المحاكمة
يخضع 24 سجناً منتشرة في مختلف المحافظات لسلطة وزير الداخلية، وتتولى قوى الأمن الداخلي إدارتها وحراستها. وقد خصص عشرون منها للذكور وأربعة سجون للإناث، إضافة إلى جناح خاص في السجن المركزي للأحداث، ودار ملاحظة للقاصرات في ضهر الباشق. لكن فيما يتم فصل السجناء الإناث عن الذكور والأحداث عن البالغين، لا تسمح الظروف بفصل الجناة المحكومين عن الموقوفين قيد المحاكمة، وبالتالي لا تحترم قرينة البراءة. ففي لبنان، نصف عدد المحتجزين في السجون أبرياء ينتظرون صدور الأحكام. وبالنسبة لجزء كبير من هؤلاء، يكتفى بمدة توقيفهم الاحتياطي بعد إدانتهم قضائياً، وبالتالي يكونون قد عوقبوا قبل إدانتهم في ما يشبه قلب نظام العدالة رأساً على عقب. فلا يمكن تصحيح سلوك جنائي قبل التأكد من وجوده. أما إخلاء سبيل الجاني يوم إدانته بسبب الاكتفاء بمدة التوقيف الاحتياطي فيشوّه مقاصد العدل والإنصاف. إذ لا مفعول رجعياً للعقوبة ومن أوقف احتياطياً لا يمكن تبديل الأسباب الموجبة لتوقيفه يوم إخلاء سبيله. وأقل ما يقال في ذلك إنه غش وتلاعب والتفاف على أصول المحاكمات الصحيحة والعادلة، حتى لو أجازه القانون الحالي وشرّعته الأعراف.
في السجن المركزي في رومية الذي لا تتجاوز سعته القصوى 1500 سجين تحشر الدولة نحو نصف مجموع عدد السجناء في لبنان، أي 3260 سجيناً. من بين هؤلاء 1424 موقوفاً قيد المحاكمة، و1836 محكوماً يقضون عقوبات تتراوح بين الحرمان من الحرية لمدة شهر إلى السجن المؤبد، إضافة إلى 74 محكوماً بالإعدام بانتظار أمر التنفيذ.
صحيح أن القضاء تمكن من خفض عدد الموقوفين احتياطياً خلال الأعوام السابقة، لكن ما زالت التدابير البديلة عن السجن الاحتياطي غير مفعلة وغير قائمة، لا في النص ولا في التطبيق. ولا تزال مذكرات التوقيف تصدر بكثافة محوّلة عشرات الآلاف (أكثر من 40 ألفاً في محافظة واحدة) إلى فارين من وجه العدالة وخارجين عن سلطة الدولة. أما الذين تتمكن الدولة من توقيفهم من بين هؤلاء فلا يبدو أن مصيرهم يتغير نحو الأفضل بعد إتمام عقوبتهم السجنية … بل نحو الأسوأ. فلماذا السعي لتوقيف أي منهم؟
المشاكل الأساسية
وضعت الدراسة الوطنية الشاملة الأولى عن أوضاع جميع السجون في لبنان قبل ثماني سنوات (2010)، خلال تولي المحامي زياد بارود وزارة الداخلية والبلديات. ولكن، لم يتم الأخذ بأي من التوصيات الإصلاحية التي وردت في المجلد الأخير من المجلدات الـ25 التي تتألف منها الدراسة، بل أهملت بشكل كامل. ولم تجر الاستعانة بها في أي خطوة لتحسين أوضاع السجون، بل تم إبعاد الفريق المتخصص الذي وضعها عن أي مبادرة. وظن بعض الطارئين على علم العقاب والعلوم السجنية أن بإمكانهم حل المشكلة من خلال التركيز على الأساليب القمعية، ما زاد من تفاقم الأزمة.
ولا بد في هذا السياق من التذكير ببعض المشاكل الأساسية بحسب الأولويات:
أولاً، لا بد من قانون لتنظيم السجون. فأهمية التشريع لا تقتصر على وضع القواعد وتحديد الأصول والهيكلية الإدارية والصلاحيات والمهام وتسلسل الإجراءات، بل يفترض أن يجسد التشريع الإرادة الوطنية الجامعة. إذ إن المشرعين اختارهم الشعب من خلال الانتخابات النيابية. والقانون الحالي، أي المرسوم رقم 14310، صدر في شباط 1949 أي قبل نحو 70 سنة ولا يزال نافذاً. غير أنه لا ينفّذ بل يستعاض عنه بتوجيهات تصدر عن المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي. وتصحيح هذا الخلل يأتي من خلال وضع قانون حديث لإدارة المرافق العقابية تنشأ على أساسه مؤسسة متخصصة في تنفيذ السياسة العقابية الحديثة التي يفترض أن يضعها مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزيري العدل والداخلية. وليس مهماً عندها لأي وزارة تخضع السجون طالما أن هناك مؤسسة متخصصة تديرها.
ثانياً، لا بد من فصل السجناء عن بعضهم بعضاً، لا بحسب الجنس والعمر والوضع القانوني فحسب، بل وفق خلفياتهم وأوضاعهم النفسية وبحسب احتمالات تأثرهم ببعضهم. ويستدعي ذلك وضع تقرير خاص يصنف كل موقوف أو محكوم قبل تخصيص السجون والمباني والغرفة أو الزنزانة التي سيسجن فيها.
ثالثاً، تقديم الخدمات الطبية والعلاجية لجميع السجناء وخصوصاً الذين يعانون أمراضاً جسدية ونفسية. ووضع برامج للتأهيل والتربية والتعليم والعمل وتشجيع العمل الإنتاجي. وينبغي أن يقوم كل من السجناء بعمل ما أو نشاط ما خلال مكوثه وراء القضبان، فالسجين «المشغول» قد ينشغل عن السلوكيات والأفكار والخطط الإجرامية.
رابعاً، عدم تفعيل الإجراءات البديلة عن السجن خصوصاً للمحكومين بجرائم بسيطة لا تشكل خطراً على الأمن يجعل هؤلاء قابلين للتجنيد في مشاريع إجرامية. لذا لا بد من تطوير العمل خارج السجون والخدمة في المرافق العامة كإجراءات عقابية بديلة عن الحرمان من الحرية.
خامساً، إدخال تعديلات عاجلة على مباني السجن ووضع بوابات هيدروليكية (تعمل بواسطة ضغط الهواء) لفصل الغرف والممرات ويتم التحكم بها من مكتب قائد السجن. هذه البوابات قادرة على منع أي أعمال شغب أو تمرد أو عصيان لأنها تعطل أي تحرك جماعي وهي كفيلة بعزل السجناء عن بعضهم بشكل صارم خلال حالات الطوارئ الأمنية.
نصف السجناء من الشباب
تشكل نسبة الشباب بين سن 19 و25 سنة النسبة الأعلى من بين مجموع السجناء في لبنان إذ تبلغ نحو 33 في المئة. أما الفئة العمرية بين 26 و30 سنة فتشكل نحو 20 في المئة. ويعني ذلك أن غالبية القابعين في السجون هم من الشباب الذين سيعودون إلى المجتمع كعناصر فاعلة بعد سنوات قليلة. إذ إن أكثر من 80 في المئة من مجموع السجناء المحكومين لا تتجاوز مدة حكمهم 5 سنوات.
نسبة الموقوفين والمحكومين السوريين 2 في المئة
كما هو معتاد في بعض وسائل الإعلام وبعض الأدبيات اللبنانية يقع اللوم دائماً على الآخرين بما يخص مشاكلنا المحلية. واللوم الأكبر يقع اليوم على السوريين بسبب نزوح عدد كبير منهم إلى لبنان. ويعتقد البعض في لبنان أن ارتفاع نسب الجرائم وتفاقم مشاكل السجون هو بسبب السوريين، بينما لا يتجاوز عدد السوريين في السجون اللبنانية 1714 من أصل 976 ألفاً (بحسب الأرقام الرسمية في شهر آب المنصرم). ويعني ذلك أن نسبة الموقوفين والمحكومين من مجموع السوريين الموجودين في لبنان لا تتجاوز 2 في المئة.