كتب ابراهيم الأمين في صحيفة “الأخبار”:
ماذا يجري في العراق؟
لن يكون لغير العراقيين الكلمة الفصل في مستقبل بلادهم. نحن الذين نقف على بعد، نحزن للمأساة القائمة هناك. ونحن الذين عانينا ولا نزال ظلم الاستعمار والاحتلال والاستبداد وحكم اللصوص، نشعر بما يشعر به المعدمون هناك. ونحن الذين بذلت الدماء من أبنائنا في سوريا كما العراق في مواجهة الاحتلال الاميركي وآثاره، نعرف أكثر حجم التحديات التي يواجهها العراقيون اليوم.
ورغم نزعة القرار الوطني المستقل، في فلسطين والاردن ولبنان، نعرف أن لغة الحدود لم تعد موجودة. وفي العراق وسوريا، حيث الدماء تنزف، نعرف أن دعاة القرار الوطني المستقل هم أنفسهم عملاء الاستعمار وأدواته المتخلفة في المنطقة.
الذين احتفلوا بالاحتلال الاميركي للعراق في عام 2003، وظنوا أن استعادة الحقوق يمكن أن يحصل عبر عصا الغاصب، هم الذين يتحملون المسؤولية الرئيسية عما آلت اليه الأمور هناك. وكل كلام عن تدخل من هذا أو ذاك، ليس سوى تغطية على عجز هذه الطبقة السياسية العفنة. تغطية لحفنة سرقت خيرات العراق في ظل الحراب الاميركية، وأنشأت زعامات وعصابات تنهش في جسم الدولة وخيرات البلد، وتتخذ الدين والطائفية والعرقية درعاً لموقفها المقيت. طبعاً، كان لهؤلاء شركاء من دول الجوار ومن العالم، وبينهم لبنانيون أيضاً (حتى لا يقال إننا شرفاء العصر). لكن المأساة لم تكن لتكتمل لولا النقص الحاد في الوطنية عند قيادات فضّلت قبل أيام خراب البصرة على كرسي الحكم. والنقص الحاد في الوطنية، يجعل هؤلاء لا يهتمون للموت المجاني الاضافي، ولا لخطر اندلاع حرب اهلية، ولا لاندلاع نار تقضي على ما بقي في هذا البلد اليتيم، مقابل أن يحفظوا نفوذاً لم يكن يوماً مستنداً الى شرعية شعبية ونضالية وأخلاقية، بل ظل مرتبطاً بولاء لخارج قاهر، يواصل قهر شعوب المنطقة منذ قرون.
ظن الاميركيون ومعهم بريطانيا وفرنسا والسعودية وقطر والامارات، وحتى الاردن وتركيا، أن حيلة «داعش» وأخواته، تكفي لاستمرار الاحتلال والسيطرة على الحكم والخيرات. وعندما خرج من العراقيين جيل قاوم بالدم هذه الظاهرة المجنونة، ومضى في مواجهتها الى حيث يجب وأدها في سوريا وأماكن أخرى، ظن الغرب، وجماعته من أهل المنطقة وعملاؤهم العراقيون، أن بالمقدور الاحتيال عبر استعراضات وانتصارات وهمية، وأن تكون النتيجة إمساكهم بالحكم من جديد، من خلال دمى فرضت على مواقع الحكم في مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية والامنية، أو تلك الخارجة من مؤسسات دينية متخلفة لا تقل فظاعة عن ««داعش». تلك المؤسسات التي صارت بريطانيا مسؤولة عن مناهج الفقه والاصول فيها، وصارت بريطانيا منصة لإطلاق خرافاتها وأساطيرها باسم الحق المسلوب.
الذي حصل خلال الاعوام الاخيرة، أن العراق، كل العراق، كان يتراجع يوماً بعد يوم. مئات المليارات من الدولارات نهبت باسم مشاريع عامة. ومئات المليارات سرقت باسم الامن والاعمار. لكن البلاد تتراجع من سيّئ الى أسوأ، وظل اللصوص يراهنون على صمت الناس، مستعينين بإعلام رخيص جيء به من كل الأمكنة (بما فيها من لبنان) كان يعتقد أن في مقدوره إخفاء الحقيقة عن أهل الارض. ولما جاءت الانتخابات النيابية الاخيرة، كانت الصفعة الاكبر من خلال نسبة تصويت هي الادنى (تؤكد مراجع رسمية أنها تراوحت فعلياً بين 19 و22 في المئة، لكن جميع القوى توافقت على إعلانها أكثر من ذلك). وكان صوت الناس أنهم خارج هذه اللعبة، وأنه لم يعد بمقدور أحد استخدامهم وقوداً في حرب المنافع والصلاحيات والاقاليم. وعندما جاء استحقاق تشكيل الحكومة الجديدة، تبين لهؤلاء اللصوص أن ما تم تزويره في الصناديق والإعلام، لا ينفع في موازين القوى على الارض، فعاد العملاء الى رقصتهم الأشد إيلاماً: نحن أو خراب البصرة!
لم تكن البصرة بالمناسبة صدفة التحركات الاحتجاجية. فهي المحافظة الأغنى في العراق. من بطنها يستخرج الحكم هناك نحو 60 في المئة من النفط المصدر، وعلى تخومها تقع المعابر البرية مع إيران، وفيها المطل الوحيد على البحر، منذ قرر الاستعمار سلخ العراق وبحره عن العراق الكبير. وفي البصرة، الزراعة والثروة السمكية، لكن فيها، لمن لا يعرف، النسبة الاعلى من شهداء العراق الذين قاوموا «داعش» خلال السنوات الماضية. ومع ذلك، فإن الفقر والقهر والعدم، تسكن هذه المحافظة الحاضنة لأكثر من ثلاثة ملايين عراقي. فمياه نهرها صارت مالحة، والارض فيها سوداء لا زرع يخرج منها، وبنيتها التحتية متهالكة الى حدود تظنها من مجاهل التاريخ. وتعاقب على حكمها مسؤولون غرقوا في الفساد والسرقة والنهب.
لكن الذي حصل، وهذه حقيقة حتى لو خرج من ينكر فكرة المؤامرة، أن الأميركيين، ومعهم البريطانيون والفرنسيون والسعوديون والاماراتيون، وحتى القطريون والاردنيون، شعروا بأن الهزيمة الكبرى ستكون عندما يقوم تحالف سياسي يجمع قوى سياسية حليفة لخصمهم الايراني، ومنخرطة في قلب معركة محور المقاومة في العراق وسوريا وأكثر، وأن يقدر هذا الحلف على استقطاب المكوّن الكردي، ومكوّن من السنّة الذين أنهكهم جنون آل سعود ومؤامراتهم. وصار بمقدور هذا التحالف الإتيان برئيس جديد للحكومة، بديلاً من «ممثل صاحبة الجلالة» المنتهية ولايته وصلاحيته.
صحيح أن إيران لعبت دوراً كبيراً في التوفيق بين مكونات تحالف «البناء»، لكنها عملت بقوة ونجحت في تحقيق تقارب كبير بين هذا التحالف الذي يجمع نواب الحشد الشعبي وأنصار نوري المالكي وآخرين خرجوا من كتلة العبادي وبين كتلة «سائرون» التي يقودها السيد مقتدى الصدر. وعندما اقترب هذا التحالف من لحظة تشكيل حكومة تُخرج حيدر العبادي ووزراء صاحبة الجلالة نهائياً، وتُقفل الباب أمام محاولات الولايات المتحدة والسعودية تنفيذ انقلاب سياسي، ما تقدّم جعل الاميركيين والسعوديين يستعجلون اللجوء الى خيار الفوضى، مراهنين على قدرة العبادي على تنفيذ انقلاب عسكري، من خلال بعض وحدات الجيش والاجهزة الامنية، وكان ينقصهم عامل التخريب، فلجأوا الى رئيس الحكومة المنتهية ولايته الذي قرر إهمال مطالب أهل البصرة. ولجأ المخططون الى بعض رجالاته في الشارع وأجهزة الشرطة والأمن، واندسوا، نعم اندسوا، بين متظاهرين ومحتجين محقين، ثم عمدت أجهزة العبادي الى إطلاق النار على الناس، لتحريضهم أكثر. ولنعترف للرجل، وللأميركيين والسعوديين أيضاً، بأنهم نجحوا في توجيه نوبة الغضب صوب فصائل الحشد الشعبي ومنشآت إيرانية. وحصل ما حصل. لكن أهل البصرة الذين يعرفون حقيقة ما يجري، لم يستمروا في الامر. بل توقفوا حيث يجب فضح أولئك الذين تجب محاكمتهم وتدفيعهم ثمن هذه الجريمة. وعلى المرجعية الدينية مسؤولية ملاحقة المجرمين والمطالبة بحقوق الناس ودمائهم.
لكن الذي فرض تغيير المعادلة، هو موقف التيار الصدري الذي لم تنقص قائده الشجاعة ليميّز بين الرغبة في تعديل آلية الحكم خارج حزب الدعوة (المرفوض اليوم من غالبية عراقية بما في ذلك المرجعية الدينية) وبين سعي البعض لتخريب البلاد. فكان أن أدرك المأساة الناجمة عن «تخريب احتجاجات» البصرة. وكانت استجابته، لمبادرة سياسية قائمة، يفترض أن ينتج عنها قيام حكومة يأمل الجميع ان تلتفت لهموم اهلها.
ما لم يجر تداوله كثيراً، أو ما لم يقرّ به القائمون على الامور بصورة واضحة، هو أنه، وبينما كان عملاء أميركا والسعودية يحرقون مقرات الحشد الشعبي وفصائل المقاومة في البصرة، كانت مجموعة من الابطال توجه صواريخ واضحة باتجاه مقر السفارة الأميركية في المنطقة الخضراء. وهي صواريخ تحمل ما يكفي من رسائل لإفهام الاميركيين بصورة مباشرة، أن وجودهم في العراق ليس مرحّباً به، ومتى اتخذ القرار، لن يبقى منهم أحد خارج المهداف. صحيح أن الحشد الشعبي تحدث عن سبعة الى تسعة آلاف عسكري أميركي، لكن ينتشر في العراق ايضاً نحو 13 ألفاً آخرين، يتولون خدمات هذه القوة العسكرية والسفارة والقنصليات الاميركية. وبالمناسبة، يدفع العراقيون بدل أتعاب هؤلاء، ليس على شكل أموال تحتاج الى مصادقات وغيرها، بل على شكل كميات من النفط، تجري سرقتها من البصرة ايضاً، وتنقل عبر الميناء هناك الى ناقلات أميركية تهرب بها بعيداً (متوسط بدل المستشار الاميركي الواحد في العراق يصل الى سبعة الاف دولار اميركي شهريا، تضاف إلى راتبه الاصلي). وهذه أموال تصرف مباشرة، بينما يحجز ممثل صاحبة الجلالة الأموال عن مشاريع التنمية في البصرة كما يحجبها عن الحشد الشعبي وقواته.
ثمة متغيرات كثيرة في المشهد العراقي، والمؤشرات توحي بإمكانية التوافق على اسم يكلف تشكيل الحكومة، وعلى برنامج عمل يبتعد عن كل آليات العمل السابقة. لكن يمكننا أن نتصور المزيد من المحاولات الاميركية والسعودية للتخريب، بمعاونة عراقيين، بينهم من هو موجود في الدولة والبرلمان والمؤسسات العسكرية والامنية. وهؤلاء، باتوا اليوم في مواجهة مباشرة مع الحشد الشعبي وما يمثله… فالى أين المفر؟