كَثُرَ الكلام في الآونة الأخيرة عن الهويّة “المشرقيّة” للمسيحيين في لبنان وسوريا والعراق وفلسطين، لدرجة أن عبارة “المسيحيّة المشرقيّة” قد أصبحت شعارًا يُستعمل في مكانه وفي غير مكانه.
على الصعيد الكنسيّ هناك عدّة تقسيمات تعود لأسبابٍ تاريخيّة ولاهوتيّة وأيضًا سياسيّة -منها انقسام الأمبراطوريّة الرومانيّة على يد ديوكلتانيوس عام 286 إلى قسم غربيّ وقسم شرقيّ-، فعندما نقول الكنيسة الشرقيّة نقصد بها العائلات الثلاث : عائلة الكنائس الأورثوذكسيّة الشرقيّة، عائلة الكنائس الكاثوليكيّة الشرقيّة، بالاضافة إلى عائلة الكنائس المشرقيّة ومنها “الكنيسة الآشورية والكنيسة الكلدانيّة والسريانيّة” أي الكنائس التي يجمع بينها التراث الروحيّ الشرقيّ، واللغات الشرقيّة القديمة. مختصر الكلام إنّ عبارة “مشرقيّة” هي عبارة كنسيّة روحيّة وأيضًا تنظيميّة لا علاقة لها من قريب أو بعيد بعالم السياسة.
غير أنّ المستنقع الشرقيّ واللبنانيّ، يرفض إلا أن يسييس المذاهب ويمذهب السياسة، فعلى غرار المارونيّة والسنيّة والشيعيّة السياسيّة، أنتج لنا هذا المستنقع -بالتعاون مع القطر السوري وغيره- ظاهرة جديدة أسمَيتُها “المشرقيّة السياسيّة” تقوم على اختصار مسيحيي الشرق تحت عنوان “المشرقيّون” وتزيد الشرخ بينهم وبين مجتمعاتهم، وتصبّ في النهاية في النهر عينه التي تصبّ فيه الداعشيّة والأصوليّة، هذا النهر الذي يرفد الصهيونيّة بماء حياتها، فالداعشيّة وشقيقاتها تعطي إسرائيل الذريعة والشرعيّة لتمسّكها بتهويد كيانها، في حين أن “المشرقيّة السياسيّة” والتي يحاوِل رعاتها أن يضعوها في مواجهة أهل السنّة تعطي إسرائيل ذريعةً أخرى تستعملها للتأكيد على استحالة قيام الأوطان المتنوّعة دينيًا في المنطقة وأن لا حلّ إلا بالدول الدينيّة التي تحمي الأقليّات الدينيّة والعرقيّة.
اسرائيل نفسها اعترفت بالقوميّة “الآراميّة” في أيلول 2014 ضمن منهجها الذي يقوم على التفرقة بين مكوّنات الدول المحيطة بها، هنا تتقاطع مصلحة الصهيونيّة مع مصالح المشاريع الدينيّة في الشرق الأوسط -الواضحة منها كولاية الفقيه، والمستترة كالأنظمة العلمانيّة- والرابط بين هذه المشاريع هو استعمالها لنظريّة حلف الأقليّات وسعيها لفصل المسيحيين عن إخوتهم من أبناء الأديان الأخرى.
والخطير في شأن “المشرقيّة السياسيّة” هو محاولتها لتغيير مرجعية المسيحيين الروحيّة خدمةً للمشروع السياسيّ، في هذا الإطار رأينا محاولة خلق مرجعية بديلة للموارنة في سوريا يوم تمّ الإحتفال بعيد مار مارون في براد بالإضافة إلى مشروع بناء الكنيسة في المكان عينه، كما رأينا المحاولة الجديّة لإلحاق أورثوذكس أنطاكيا وغيرهم من المسيحيين بسياسة الدولة الروسيّة واستثمار الإنتماء المذهبيّ لتقريشه في الحرب السوريّة، ولا ننسى استعمال المسيحيين كذريعة لتدخّل الميليشيات في الحرب السوريّة بحجّة الدفاع عنهم وكمحاولة لإستقطاب التعاطف الدوليّ من خلال تصوير المسيحيين كفصيلة معرَّضة للإنقراض.
كلّ هذا المسار المتعرّج لهذه المشرقيّة المزعومة يؤدي في نهاية الأمر إلى تحويل المسيحيين لأهل ذمّةٍ عند الأقليّات الأكبر منهم -وإن على المستوى النفسي- ويجعل منهم متاريسًا في النزاع الشيعيّ-السنّي، ويصيب المسيحيّة في صميم رسالتها إذ يجعل من أولادها مخلوقات هامشيّة لا دور لها إلا بالحفاظ على طقوسها الدينيّة والمجتمعيّة، وعلى حقّها باستعمال لغاتها البائدة.
في النهاية لا يمكن وصف المشرقيّة السياسيّة إلا بالخيانة العلنيّة للمشرقيّة الروحيّة وللمشرقيّة الإنسانيّة، وهي أيضًا خيانة عظمى للنموذج اللبنانيّ القائم على التعدّد، هنا لا بدّ من أن تقف العائلات الروحيّة المسيحيّة اللبنانيّة في مواجهة هذه الهرطقة التاريخيّة، ولا بدّ لها من دفن “المشرقيّة السياسيّة” قبل الإحتفال بالمئويّة الأولى للبنان الكبير، كي تضمن المئويّة الثانية على الأقلّ.