كتب شارل جبور في صحيفة “الجمهورية”:
الجزء الأكبر من الخطاب العوني الموجّه ضد «اتفاق الطائف» قام على فكرة أساسية هي انّ هذا الاتفاق يفتقد في نصوصه وروحيته إلى مرجعية داخلية مهمتها حسم الخلافات في زمن الأزمات، وبالتالي السؤال الذي يطرح نفسه: ألا يعتقد أركان العهد أنّ الفرصة أكثر من مؤاتية لتحويل رئاسة الجمهورية تلك المرجعية؟
الفكرة التي استند إليها «التيار الوطني الحر» في معارضته «اتفاق الطائف» انّ هذا الاتفاق تقصّد تغييب المرجعية الداخلية لمصلحة مرجعية خارجية قادرة على بت الخلافات وإدارة النزاعات ومعالجتها وحل المشكلات وضبط التوازنات، والهدف من هذا الترويج كان القول انّ «الطائف» غير صالح لأنه سعى منذ اللحظة الأولى إلى تمكين الخارج من إدارة الداخل.
وطبعاً هذه الفكرة ليست صحيحة، والهدف منها كان النيل من «اتفاق الطائف» وتشويه صورته، فهذا الاتفاق لم ينص في نصوصه ولا في روحيته على تغييب الداخل لمصلحة وصاية خارجية، إنما الظروف السياسية الداخلية والخارجية وتطوراتها قادت الى تَخلٍ دولي وعربي عن لبنان، وتمكين النظام السوري من تحقيق حلمه التاريخي بوضع يده عليه.
فالجمهورية الأولى لم تصمد أمام التدخلات الخارجية، ورئاسة الجمهورية التي كان يقال انها تحتكر كل الصلاحيات وقفت متفرّجة على تفكّك الدولة وانهيار البلد، في دليل إضافي على وهم الصلاحيات التي كان مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان أفضل من وَصّفها أخيراً بقوله: «لا يفيد الإصرار الحقيقي او الموهوم على الصلاحيات، لأنه عندما يتهدد النظام، لا تعود هناك قيمة للصلاحيات او المرجعيات».
ولا تعود هناك اي قيمة أيضاً للصلاحيات لدى حصول اي اشتباك مذهبي او طائفي، ويكفي الاتّعاظ من تجربة الحرب وما سبقها، او تجربة التوترات الطائفية وما لحقها وتبعها، ما يعني انّ إدارة الدولة لا تتم بالإكراه والقوة، إنما بمسؤولية وحكمة.
فالخلل ليس في نصوص «اتفاق الطائف»، فيما لا يوجد اي نص كامل، بل في الممارسة التي أقصَت المسيحيين بسبب موقفهم السيادي، وقد استمر هذا الواقع إلى ما بعد خروج الجيش السوري من لبنان بفعل رفض إقرار قانون انتخاب تمثيلي. أمّا وقد تأمّن التوازن بين الرئاسات الثلاث وداخل الحكومة والمجلس النيابي، وتحديداً من خلال رئاسة أولى تمثيلية، فيجب التأسيس على هذا الواقع من أجل تحويل رئاسة الجمهورية المرجعية الداخلية الموكلة فضّ الخلافات وإبرام التسويات وإيجاد الحلول وإطفاء الأزمات، ولكن لهذا الدور المنشود شروطه:
ـ أولاً، الطريق إلى الرئاسة الأولى تختلف عن مرحلة ما بعد تَرؤس هذا الموقع الذي يجب ان يحوِّل صاحبه حاضنة للقوى السياسية وليس منافساً لها. فالهدف من الوصول إلى الرئاسة تحقق، وبالتالي الأداء بعد الانتخاب يجب ان يختلف عمّا قبله، إلّا في حال أصبح الهدف التالي التمديد والتجديد او الخلافة، فيطيح الرئيس عهده بيده، والتجارب أكثر من ان تعد وتحصى.
ـ ثانياً، الدور المرجعي يتطلب من صاحبه المبادرة والتنازل وتدوير الزوايا، وليس التعاطي على قاعدة المنافسة والخصومة السياسية. أفلا يستطيع رئيس الجمهورية مثلاً دعوة رئيس «الحزب التقدمي الإشتراكي» وليد جنبلاط والنائب طلال ارسلان الى اجتماع مفتوح في القصر الجمهوري لا يُنهيه قبل إنهاء مشكلة التمثيل الدرزي؟ وهل يمكن لأحد الطرفين عدم تلبية دعوة رئيس الجمهورية، وما انعكاسها في هذه الحال على الطرف الذي رفض التلبية؟ وهل يمكن لرئيس جمهورية أساساً ان يحل مشكلة بين طرفين إذا كان متهماً من أحد أطرافها بأنه يقف مع طرف ضد طرف آخر؟ وألا يستطيع أيضاً دعوة الدكتور سمير جعجع والوزير جبران باسيل الى اجتماع ثلاثي يصار من خلاله إلى إنهاء أزمة التمثيل المسيحي؟ وألا يستطيع رئيس الجمهورية بالتنسيق والتشاور مع رئيس الحكومة المكلف الدعوة إلى لقاء تشاوري مع القوى الأساسية لإنهاء الفراغ، خصوصاً انّ التأليف مسؤولية مشتركة بين الرئيس المكلف ورئيس الجمهورية والقوى التمثيلية الأساسية؟
ـ ثالثاً، الدور المرجعي لا ينتزع بالقوة إلّا في حالة من حالتين، إذا كان احتلالاً او حكماً ديكتاتورياً، وخلاف ذلك ينتزع بالاحترام وموقع الأبوة وان يكون المثل والمثال وجعل الدستور الحَكَم في بَتّ النزاعات والخلافات.
ـ رابعاً، الكف عن الرهان على تعزيز الصلاحيات ليس فقط كون الأمر مستحيلاً تقريباً، بل لأنّ الصلاحيات تتعطل في الأزمات، خصوصاً إذا كانت طرفاً في النزاع.
ـ خامساً، المطلوب من رئاسة الجمهورية ان تكون «أبو ملحم» حيث يجب ان تكون، وحازمة حيال كل ما يخالف الدستور وليس المعايير الفئوية والانتقائية والشخصية، إنما معايير موضوعية وعلمية واضحة المعالم.
ـ سادساً، ليس المطلوب من رئاسة الجمهورية الانسحاب من الحياة السياسية، إنما المطلوب ان تثبت انها فوق الخلافات وتصفية الحسابات وتغليب طرف على آخر، وانها الأكثر التزاماً وتقيّداً بالدستور وأحكامه.
هناك فرصة حقيقية لتحويل رئاسة الجمهورية المرجعية الداخلية التي يفتقد إليها اللبنانيون منذ اندلاع الحرب اللبنانية، خصوصاً مع الرئيس ميشال عون الذي يحظى بمشروعية تاريخية وتمثيلية، فهل يبادر أولاً إلى قطع الطريق على كل الأوهام من انّ المشكلة بنيوية في النظام، لأن لا نظام في العالم قادر على إعادة المرجعية الى الداخل اللبناني في حال كانت المرجعية في موقع المنافسة مع غيرها من القوى السياسية على خلفية نزاع صلاحيات او شعبية؟ وهل يبادر ثانياً من أجل انتزاع هذا الدور وتكريسه لرئاسة الجمهورية في خطوة تفوق كل صلاحيات العالم ولها طابع الاستمرارية؟ وهل يبادر ثالثاً من أجل إثبات انّ اللبنانيين قادرون على حكم أنفسهم بأنفسهم بلا وصايات مرفوضة وتدخلات مستهجنة؟