كتب بول شاوول في “المستقبل”:
لم يكن يعرف أو يتوقع حزب الله (أو الذين اتخذوا قرار اغتيال الشهيد الرئيس رفيق الحريري)، أن تتوصل لا هذه المحكمة الدولية (ولا أي قوّة في العالم) إلى اكتشاف تفاصيل هذه الجريمة وفصولها وتقنيّاتها وأصحابها. وهذا ما يفسّر موافقة الحزب على إنشاء المحكمة. بدأت المفاجآت تأتي الواحدة بعد الأخرى. وهنا بدأت عمليات التضليل المُنظّمة (بين الحزب وجماعة بشار الأسد)، تتنوّع وتتكاثر: «الافتتاح مع أبو عدس، ثم الحجّاج الأستراليين، ثمَّ قصف إسرائيل الموكب من بوارج بحرية، ثم قصف إسرائيل بالطائرات الحربية، ثمّ انفجار تمَّ من تحت الأرض»، إلى أن وصل الأمر بجريدة «تشرين» السورية إلى اتّهام سعد الحريري بقتل والده ليرثه.. من دون أن ننسى عبث بعض الأمنيين المؤتمِرين بهذا الوزير أو ذاك بأماكن الجريمة، ومحاولة محو آثارها بالجرافات، بل ولا ننسى تصريح الرئيس السابق إميل لحود «مختتماً» سلفاً التحقيقات «على اللبنانيين أن يعودوا إلى أشغالهم» وكأنَّ شيئاً لم يكن. فهؤلاء القتَلَة محترفون، ومؤمنون بقضيّتهم «الإلهية» العادلة، التي تقضي باغتيال الرئيس. فالقتل إيمان أيضاً، واستراتيجية سياسية، وطريقة تفكير، وحياة.
ماذا نسمّي قيام هؤلاء الذين يمكن أن نعدّ أيامهم بإعداد ما يرتكبون من جرائم. اتّخذوا القرار بكلّ راحة بال، عملت «الشبكة» على استخدام الخليوي، هنا، وإطفائه هناك. لم يكونوا يتوقّعون أنّ يهزم تطوّر تكنولوجيا الاتصال، التي اكتشفت تنسيقهم الدقيق، «الحرّيف».. وإمعاناً في «أيديولوجيا» القتل، اغتالوا رموزاً من 14 آذار من سياسيين وصحافيين..
اغتالوا سمير قصير، وجورج حاوي، ووليد عيدو، وبيار أمين الجميّل، وجبران تويني… وكلّ مَن بدا أنه يُساهم في تقنيات التكنولوجيا لكشف أسرارهم السوداء.. وإمعاناً في هذا النمط «الفاشي» قاموا بعملية 7 أيّار وقتلوا نحو 80 لبنانياً وأحرقوا «تلفزيون» وجريدة «المستقبل»، ثم بمغامرة استجرار العدو الإسرائيلي بقرار إيراني، إلى تدمير قطاعات أساسية في لبنان، من جسور، ومقتل وجرح نحو 3400 شخص، (مقابل 70 إسرائيلياً)… وأخيراً خرجوا من الخنادق والأنفاق وأعلنوا انتصار الحزب.. وهزيمة لبنان.
إن كل هذه الوقائع مترابطة، وجلّها، ارتُكب لاعتقاد أصحابها بأن لا عدالة، ولا عقاب، ولا محاكمة.. وكل شيء باطل. وعندما توصّلت المحكمة الدولية إلى اتّهام أربعة من «عتاولة» الحزب وهم مؤسّسو الشبكة، جعلهم السيّد حسن نصرالله «أشرف الناس»، و«قدّيسين»، لا يُمسّون، وأخفاهم في كانتونه ودويلته.
لم ينفع «قدّيسو» الحزب في كل هذه المحاولات الابتزازية، ولا تسفيه المحكمة واتّهامها بأنّها «محكمة أميركية – إسرائيلية». والغريب أنّ 8 آذار سبق أن اتّهمت الشهيد الحريري و14 آذار بالعمالة لإسرائيل، ثم انتهت هذه الأخيرة بقتلهم. وكأنّ إسرائيل لا تقتل سوى «حلفائها». وها وصلت المحكمة إلى خواتيمها (مرافعاتها الختامية) التي عزّزت فيها تأكيد مشاركة «قدّيسي» الحزب، وأوليائه، وأشرافه، ومؤمنيه الأفاضل بتنسيق هذه العملية وتنفيذ عملية القتل.
أشرف الناس
لم ينفع «أشرف الناس» ولا «أقدسهم» كل أنواع هذه الأساليب القديمة في إبعاد «حبال» الاتّهام عن أعناقهم! إنهم في الظاهر أربعة أو خمسة.. لكن وراء مَن تلقّوا من الحزب الذي تلقى من إيران «التكليف الشرعي» بالاغتيال طبّق باسم «الله»، وإرادته، ومشيئته: فلِمَ لا يجعلون منه «شريكاً» بجرائمهم. فالحريري بات يُشكّل خطراً على مشروعهم الامبراطوري الفارسي، و«هلالهم» الورقي، فلنلغه: وهل ممكن ألاّ يدرك الاتهام (غداً أو بعد غد) خامنئي، أو بشّار الأسد، الذي سبق أن هدّد الحريري بتدميره وتدمير لبنان على رأسه ورأس وليد جنبلاط، لأنهما رفضا التمديد لرئيسهم المفدّى الجنرال إميل لحود، بالطبع أنكروا تلك الحادثة، وراحوا يتغزّلون بعلاقة بشّار الرائعة بالرئيس الشهيد!. «إخوان! ولو! أيقتل الأخ أخاه؟» حتى حزب الله، أشاد بالعلاقة الإيجابية بالحريري، ليخلصوا إلى التساؤل المريب «ومَن له مصلحة بقتل الحريري سوى إسرائيل؟»، وكأنّما لم تتجسّد مصلحتهم «العليا» الآتية من المراتب الإيرانية السامية، بحذف هذا الرجل الذي يعرقل خططهم واستراتيجيّاتهم.
وأخيراً تكشفت الحقيقة وعلى مدى نحو أكثر من عشر سنوات، مقترنةً بالأدلة الدامغة، والوثائق المسجّلة، والشهود، أنّ منفّذي الجريمة هم عناصر من حزب إيران. إذ كيف يكون «حزباً لإيران» ولا يأتمر بأوامرها، من قرار الحرب مع إسرائيل (2006)، إلى إسقاط حكومة الحريري بسلاح وعراضات ذوي «القمصان السود»، إلى الذهاب إلى سوريا بشعار طائفي «حماية ضريح السيّدة زينب» لإنقاذ حليفهم وشريكهم في المجازر والبراميل المتفجّرة، والقصف بالكيماوي، الذي كان على شفير السقوط.. إلى جانب سليماني «وفالق القدس» وميليشيات شيعية وغير شيعية من الشيشان وأفغانستان..
الأسد
إذاً، من العبث أن تنفصل عملية اغتيال الحريري، عما حدث بعدها: فالأسد بعد ثورة الأرز سحب جيوشه من لبنان خاضعاً لإرادة أكثرية الشعب اللبناني. وهل يمكن فصل تصريحات نصرالله التي أعلن فيها «شكراً سوريا شعباً، ونظاماً، وحكومة؟».. ويكفي أن يتفوّه بآيات الشكر هذه، حتى يكون متواطئاً مع كلّ ما ارتُكب من جرائم! فكل حليف للحليف صديق. وهكذا معاً من فوق: خامنئي ورئيس النظام السوري، وحزب الله وشبّيحة الأسد، وسليماني: حلف من الأعلى إلى الأسفل، حيث تزول المسافة بينهما، ويوضعان في خانة واحدة من الاتهام، والتواطؤ. ولم ييأس هؤلاء.
الوقائع
وعندما نستحضر كل هذه الوقائع، فلنربط بينها: من جهة ما يجري في سوريا، وفي العراق وفي اليمن، وصولاً إلى لبنان: فالحلف عضوي، بين هؤلاء المجرمين. وكيف لا يكون كذلك من الجرائم التي ارتكبوها، وفي صدارتها قتل الرئيس رفيق الحريري.
وبعد كل «الهمروجة» التي حرّكها الحزب والنظام السوري لتسخيف المحكمة، وبعد احتقارها بلغة «الصبابيط» والشتائم، ها هو الحزب اليوم بعد صدور قرار الاتهام، يلتزم الصمت: «لا تعليق»، والتحقت به وسائل إعلامه من تلفزيونية ومكتوبة: إهمال اجتماع المحكمة وقراراتها تيمّناً بقول السيّد نصرالله ما معناه: لا تهمّنا هذه المحكمة سواء دانت أو برّأت المتّهمين من الحزب. ونظنّ أن هذا الصمت لن يطول، في انتظار استكمال عمليات الدفاع والدفوع من قبَل محاميي المتّهمين. صمت مريب! ويعني، في الواقع، أنه لن يسلَم أيّاً من «قدّيسيه»: وهل يمكن احتراماً وإجلالاً للإرادة الإلهية أن يسلم «أبرياءَه» وأولياءه إلـى «الشياطين» عملاء إسرائيل وأميركا في المحكمة الدولية.
فالمسألة الأساسية أنّ الحزب، كما يبدو حاليّاً، خسر كل معاركه وحروبه ومعه إيران داخل العرين الفارسي، وفي العراق، واليمن، وسوريا بالذات.
الوطن
ولم يتبقَّ له سوى «وطنه» الصغير ساحة للتحكّم به، وقرض دولته، وتوسيع كانتونه ليدرك المؤسسات الأمنية والسياسية، لكن، ولأنّ الأمور ليست في يد الحزب، فبمَ تفكّر إيران؟ وهل ينتظر منها تكليفاً شرعياً لمغامرة جديدة؟ فهذه الأخيرة أعلنت بلسان أحد مجرميها سليماني أن الحزب حاز 74 نائباً، ويعني ذلك أنّه سيطر على البرلمان، بل ويعني أنّ هذا السليماني العبقري المريض بالسيطرة والهيمنة والغزو، يختزل كل حلفاء الحزب الانتخابية به: من حركة «أمل»، إلى سليمان فرنجية، إلى التيار الوطني الحر.. فإلى المستقلين؟ إذاً، فلنحتفل بانتصارنا.
دائماً يريدون انتصارات، حتى في الهزائم، وحتى في حروب لم تقع، فمن أين نأتي لهم بها، والجوّ معتكر: في العراق يطالب شيعتها بالسيادة وبخروج ميليشياتها من البلد العربي العريق. وكما فوجئ السيّد نصر الله وخامنئي بانتفاض شيعة العراق عليهم، وبقرار المحكمة، سيفاجؤون غداً، بانضمام الشعب الإيراني كله لإسقاط النظام، الذي أفقرهم وعطّشهم وجوّعهم، مهدراً خيرات البلاد وأموالها في حروبه الخارجية العبثية التي لم يحصد منها سوى ضعفه، واهتزازه، وخرابه.
إذاً، أمام الحزب اليوم (ووراءه إيران الملالي، لا إيران الشعب)، خيارات عدّة لكن ماذا يختار منها، وقد تعدّدت وتكاثرت، وتساقطت على رأسه؟
هنا بالذات قد يعمد إلى خطوة «جنونية» أقرب إلى الانتحار، للخروج من هذه الدوّامة. ونظنّ أنه إذا أقدم عليها، فستكون هذه المرة نهايته.. ليرتاح شيعة لبنان وشعبه منه، بعدما صار كابوساً عليهم!
وهنا أهمية المحكمة الدولية: فالحزب المتّهم أعضاء منه بالإرهاب سيجلب لنفسه اتّهامات «إرهابية» أخرى، شأنه في ذلك، شأن أربابه! إلاّ إذا كان ينتظر معجزة في مجلس الأمن الذي أنشأ هذه المحكمة.. وينفّذ قرارتها..
هناك حلّ واحد: أن يعود الحزب إلى رشده، وإلى لبنان، بين أهله وشعبه، فهنا الحماية المضمونة!
فهل يعود؟