لماذا، عادة «تجري الانتخابات النيابية في أيّ بلد، سواء أكان ملكياً، أو جمهورياً، أو حتى توتاليتارياً، أو حتى داخل جماعة، من نوع نادٍ، أو فريق، أو جمعية، عائلية، أو حزبية، أو حتى في نقابة، أو بناية، أو شارع، أو في أرجاء المعمورة ككل (بعبارة الحكماء العرب)؟
لا حاجة، في معرض الإجابة، في البحث، لا عن فقه الانتخابات، ولا عن القانون الأنسب لإجرائها، ولا عن صلتها بالديمقراطية، وسائر البدع والمعزوفات، التي تتحدث عن التمثيل، وصحة التمثيل، ودور الرأي العام، وما شاكل من أدبيات السياسة وعلم السياسة، والأنظمة الديمقراطية، ومرونة الدساتير أو جمودها.
ما يعنينا هنا، هو فقط، كيف أن الانتخابات، قد تكون حلاً لمشكلة، أو مخرجاً، مدنياً، لا عنفياً من أزمة حكم، أو أزمة إدارة أو ما شاكل..
لذا، استقر الانتظام العام، بالنظر إلى العمليات الانتخابية، كشكل من أشكال إضفاء الشرعية، على إدارة عمل، أو تشريع، أو أي شكل يتعلق بحكم المجموعات، أو تسيير أعمالها..
وبالنظر إلى هذه الوجهة في الاستعمال، تحدّد التنظيمات أو الأنظمة المعمول بها، ديمقراطياً، أو اقتراعياً، قوانين، ومراسيم وإجراءات عملية، فترات زمنية تجري على أساسها الانتخابات، لإيصال من يمثّل، وفقاً لأحكام دستورية أو قانونية، تأخذ بعين الاعتبار، البنية المجتمعية أو التكوينية لمجتمع من المجتمعات، من تركيبات دينية، أو عرقية، أو إثنية، أو أيّ خصائص تشكل هوية مجتمع من المجتمعات.
ولا حاجة، بعد، للتبصُّر في ما إذا كانت أثينا، هي أمُّ العقل الإنتخابي، أو الديمقراطي، أم حضارة أخرى مكشوفة أو قيد الاكتشاف، أو كانت هي فكرة أوروبية، أو منبثقة عن نظام الشورى، وأهل «الحل والعقد» في الإسلام.. المهم أن لبنان وفقاً للدستور في مقدمته «ج» «جمهورية ديمقراطية برلمانية…» (لا حاجة لإكمال مضمون الفقرة) و«د» التي تنص «الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسسات الدستورية».
وهذه الجمهورية «الديمقراطية البرلمانية» التي تحتفظ ربما بالاسم فقط، يحفل تاريخها مع اقتراب مائة سنة على قيام دولة لبنان الكبير، بأزمات وهزات، وحروب دموية، وسياسية، ومالية، واجتماعية وحتى تعليمية…
جاءت انتخابات 6 أيار 2018، لتشكّل نقطة تحول في دينامية الإستقرار اللبناني، الداخلي، بعد الطائف، التي خرقت، أو انحرفت عن مسارها مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005 على خلفية «توتر كبير» سببه عامل دولي – إقليمي، تآمري، تمثل بالقرار 1559، المشؤوم، الذي أتى للإطاحة بالقرار 425، الذي حصر المواجهة بين لبنان وإسرائيل على خلفية اجتياح آذار 1978، والتي تمثلت بصراع دبلوماسي، وسياسي، وعسكري، تمثل لاحقاً بعمليات المقاومة التي أدَّت إلى التحرير شبه التام، ولكن غير الناجز في 25 أيار 2000، الذي صار أي هذا اليوم، عيداً للتحرير والمقاومة، رسمياً، تقفل فيه الدوائر والمؤسسات الرسمية، ويقتصر الاحتفال به، عملياً على «حزب الله» الذي تحوَّل إلى العامود الفقري، وان لم نقل الحصري للمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي.
وسط الديناميات الجديدة، التي أطاحت «بالستاتيكو» اللبناني، ورتابته بعد الطائف، وتمثلت بالانقسام الأفقي بين المسلمين (سنّة وشيعة) على إعادة بناء المحاور، وفقاً لروحية نظام 1943، (الروحية فقط) أي البناء الثنائي للسلطة، وعودة الجنرال ميشال عون من المنفى، والذي سبقه، أو تزامن معه إطلاق سراح سمير جعجع من السجن في وزارة الدفاع، بعد العفو عنه بقانون صدر عن مجلس النواب..
نجح الفريق المتشكل من حزب الله والتيار الوطني الحر بعد حرب تموز 2006، في إعادة الإمساك بزمام المبادرة: إيصال العماد عون، القوي في طائفته (المارونية، ثم المسيحية، بعد أن صارت مشرقية!) إلى سدَّة الرئاسة الأولى، هنا تجدَّد الحلم بالاقتصاص من حقبة نهاية الثمانينات التي أتت بالطائف، وعلى حساب صلاحيات رئيس الجمهورية، التي انتقلت إلى حكومة انتقالية عسكرية برئاسة عون، قبل أن يطرد من قصر بعبدا بقوة «التحالف الأميركي – العربي» 1990، الذي مهَّد للإطاحة باحتلال صدام حسين للعراق، وإخراجه من هناك بقوة الأساطيل و«المارينز» الأميركي، المطعم بجنود عرب وسوريين.. الرئيس القوي في بعبدا، بعد ربع قرن ونيّف..
وأدّى وضع قانون نسبي للانتخابات إلى استعادة المبادرة البرلمانية، 76 نائباً لفريق المحور الإيراني – السوري – حزب الله (أو المحور الممانع) بما في ذلك الرئيس القوي عون نفسه..
قبل أن تلفظ المحكمة الخاصة بلبنان الحكم في قضية اغتيال الرئيس الحريري وأشخاص آخرين، كان محور 8 آذار، والتيار الوطني الحر في قلبه، يستعد لإزالة «الآثار السياسية والدستورية» لحقبة فريق 14 آذار للسلطة، بعد الانتخابات التي أدّت إلى وصول هذا الفريق بأكثرية ساحقة إلى رئاسة الجمهورية، والحكومة، فضلاً عن الهيمنة العددية على مجلس النواب..
هكذا، تحوّلت انتخابات 6 أيار إلى مشكلة، وحده الرئيس سعد الحريري، الوريث السياسي القوي «للحريرية السياسية» رئيساً مكلفاً لتأليف الحكومة، معتمداً على رصيد «التسوية السياسية»، التي أوصلت عون للرئاسة الأولى، وضمنت له المكوث لسنوات إضافية في «السراي الكبير» تاركاً للمحكمة أن تأتي بالعدالة، والثأر لدم والده، على أن يتكفل هو في الحفاظ على الإرث السياسي، الذي صمد بقرار دولي- أوروبي وعربي، وحتى لبناني بعد أزمة الاستقالة المتلفزة من رئاسة الحكومة المستقيلة اليوم بقوة الدستور بعد اجراء الانتخابات..
وبقوة الدستور نفسه، وبقوة الصراع الحادّ في الشرق الأوسط، الذي تحوّلت ضفافه، ومياهه الإقليمية والدولية إلى بحيرة تطفو على سطحها ألوان ضخمة، بأعلام متعددة من البوارج والفرقاطات والسفن الحربية، وبقوة «النزوع الماروني» للثأر من الطائف، تحوّلت الانتخابات إلى أزمة، بدل ان تكون الحل الذي يؤدي للخروج من الأزمة.. وانتصبت الحرب الكلامية، والانتقامية، حتى في الوزارات، مؤذنة بفصل خطير من فصول الدراما اللبنانية في «الجمهورية الديمقراطية البرلمانية»!