كتب جوزف طوق في صحيفة “الجمهورية”:
عندما كنّا صغاراً كنّا نهرب من الحياةِ إلى الأفلام، نقع في غرام أبطالها وبطلاتها من أجل أن نخفّفَ وطأةَ خوفنا من تفاصيل يوميّاتنا، نصدّق التخاريف ونتفاعل مع اللامعقول حتى يكاد كرسينا يتحوّل مركبةً فضائيةً وأقلامُنا أسلحةً فتّاكة، ونطير بشراشف سريرنا مثل سوبرمان… كبرنا ونضج كلُّ شيء فينا إلّا طريقة مشاهدتنا للأفلام، وما زلنا في كلّ مرّة نذهب فيها إلى السينما نبحث عن نفس المواضيع والإسقاطات، لكن لدى مشاهدة «كفرناحوم» اكتشفنا أنّ هذا ليس فيلم سينما لأن ليس فيه لا أبطال ولا أشرار، اكتشفنا أنّ «كفرناحوم» قصّة حقيقية غير اعتيادية أصبحت عظيمة لأنها معروضة على الشاشة، واكتشفنا أنّ في هذا العمل ليس هناك ممثلون وممثلات، هناك فقط أطفال وكبار يُعيدون تمثيل الجريمة التي تُرتكب بحقّهم كلّ يوم، يحاولون الهروبَ من الفيلم إلى الحياة، ينظرون في عيون المشاهدين ويبحثون بين الأشرار المسمَّرين على الكراسي عن شخص مختلف، عن بطل خارق يغيّر بقدراته البشرية لامبالاتنا وتقصيرنا وقلّة إدراكنا، ويعلّمنا مشاهدة الكثير والكثير من الأفلام التي تدور أحداثها كل يوم في بناياتنا وشوارعنا ومدننا ووطننا، ويمكن أن نصبح نحن أبطالها.
ينقل «كفرناحوم» قصة صبي لبناني إسمه زين قرّر رفع دعوى قضائية على أهله بجرم إنجابه الى الحياة، ويعود من هناك في فلاشباك مطوّل إلى الأحداث والمآسي والتفاصيل الصغيرة التي دفعت به إلى هذا القرار… ولا يحاول العمل معالجة أيّ معضلة وطنية، إنما يكتفي بعرض المواجع التي يعاني منها مكتومو القيد والعاملات الأجنبيات واللاجئون والقاصرات المغتصبات والمسنّون والمقهورون في البلد بأسلوب روائي ساحر وبحركة كاميرا مبهرة وموسيقى تصويرية موجعة، ليمسكنا بيدنا كالعميان ويأخذنا إلى الأماكن التي لا ينشر منها أحدٌ صوراً على السوشل ميديا ولا يتمدّد على بلكوناتها المؤثِّرون والمؤثِّرات.
تتحرّك كاميرا نادين لبكي على وجوه شخصيات وكاراكتيرات مآسيها ثابتة وراسخة، وتركض في الشوارع وعلى الأسطح بحثاً عن مخرَج لشخصيات ملّت الجوع والوجع… الكاميرا صامتة لا تتكلّم، وكأنها تتحوّل في كلّ مشهد إلى قلم في يد هذه الشخصيات ينصاع لأسلوبها الروائي في سرد بطولاتها الممزوجة بالشرّ… تنسى الكاميرا نفسها أحياناً وتصبح مجرّد عين مراقب مصدوم من هَول المشهد، مراقب يكتشف أنّ مدينة الملاهي لا تُفرح الأولاد المظلومين والمحرومين والمقهورين، مدينة الملاهي تُلهي الأولاد الزهقانين من البوظة والمعكرونة والسندويشات.
«كفرناحوم» مشغول بإتقان وحِرفية بالغة لدرجة تجعل المشاهد يشعر أنّ الكاميرا تترك الشخصيات أحياناً وتستدير نحو المشاهدين، لتذكّرَهم أنّ البعض يتاجر بالبشر والبعض بالمخدرات والممنوعات والمسروقات، والبعض بالعاملات الأجنبيات، وتنبّهنا أنّ التجارة بمآسي البشر وقهرهم وجوعهم والظلم المفروض عليهم أفظع بكثير.
لا شيءَ يعطي «كفرناحوم» حقّه أكثر من مشاهدته والاستمتاع باللكمات التي يوجّهها إلى وجوهنا التي تعلّمت أن تشيح نظرَها عن حاجات الآخرين… فبعد «كاراميل و«هلأ لوين»، غاصت نادين لبكي أكثر في النسيج اللبناني وعالجت ما لا يجرؤ أحدٌ آخر على معالجته وعرضه على شاشةٍ ذهبت إلى العالمية وانتشلت الجوائز من مجتمعات منغمسة في مآسي كثيرٍ من شخصيات العمل، حتى لا تبقى الصرخةُ وطنيةً وإنما تصبح عابرةً للحدود.
يكاد «كفرناحوم» يكون صلاة وفعل ندامة يتلوها كل مشاهد، وصحوة ضمير فنّية تعرّي لبنان بمجتمعه وجغرافيته وبيروقراطيته وروتينه الميليشياوي والسياسي من كل الصفات التي ورثناها كالببغاء عن المتاجرين بالوطنية، ويرينا أنّ لبنان بلد آلاف الغرباء بسبب طائفيتنا، وآلاف التعساء بسبب عنصريتنا، وآلاف البؤساء بسبب لامبالاتنا… وبلد ملايين المشاهدين الذين يبرزون بطاقة هويتهم على شباك التذاكر لمتابعة فيلم الجحيم الوطني بعرضه المتواصل.