كتب حبيب معلوف في صحيفة “الأخبار”:
لمقاربة مشكلة النفايات في لبنان بشكل جدي ومسؤول، لمرة واحدة وأخيرة، يفترض بمجلس النواب اليوم ان يردّ مشروع قانون النفايات، ليس الى اللجان النيابية مجدداً، بل الى وزارة البيئة التي اقترحته بالأساس، والتي عليها ان تنتج استراتيجية تقوم، أولاً، على التخفيف من انتاج النفايات، ومن ثم الفرز والتسبيخ وإعادة التدوير، وتضع مبادئ اكثر إخلاصا لمصالح البيئة والاقتصاد العليا، وليس لمصالح مستثمرين أو لتقنيات مهما كانت متقدمة. بناء على هذه الاستراتيجية يُعدّل مشروع القانون ويُعاد إرساله الى مجلس النواب، ضمن خريطة طريق واضحة وشفافة تحدد المبادئ والخيارات والأولويات والاهداف وكيفية تحقيقها، مع الأخذ بالاعتبار ضرورة اختيار وزير بيئة، في الحكومة العتيدة، غير محسوب ومدين لأحد الا للبيئة التي تعتبر رئة الشعب اللبناني التي تكاد تختنق.
وإذ يعتبر تخفيف النفايات المبدأ الأساسي الذي يفترض ترجمته في القانون، على وزارة البيئة ومجلس النواب عدم التردد في وضع الضرائب على السلع غير الضرورية التي تتحول الى نفايات، على اعتبار ان وظيفة الضريبة ليست تمويل معالجة النفايات بقدر ما هي اداة لتغيير السلوك المنتج للنفايات بكثرة، حتى بات معدل انتاج الفرد في لبنان اكثر من كيلوغرام يومياً، وهو معدل لا تجارينا فيه البلدان المتقدمة ولا تلك النامية. وتكون هذه الضريبة عادلة كلما كانت متدرجة بالمسؤولية من المصنّع ثم التاجر والمسوّق فالمستهلك. مجرد تطبيق مبدأ التخفيف عبر التشريعات الضرورية يمكن ان يخفض حجم النفايات الى الثلث من دون اللجوء الى أي من التقنيات المتنازع عليها بين اصحاب المصالح، كالحرق والطمر وإعادة التدوير.
تاريخياً، لم نكن نشعر بوجود قانون للنفايات، او بأن النفايات «قضية»، إلا عندما كنّا نرى لافتة كُتب عليها «ممنوع رمي النفايات تحت طائلة المسؤولية». هذه العبارة التي كانت تُرفع في أماكن محددة أو على طرقات مؤدية الى أودية او أماكن أثرية وتراثية، كانت مجرد ترجمة لمرسوم يعود الى عام 1974 (رقم 8735) تحت عنوان «المحافظة على النظافة»، لم يجر تطويره إلا باعتماد «خطط طوارئ» بدأت عام 1997 ولا تزال مستمرة الى يومنا، حتى وصلنا الى مرحلة طافت فيها النفايات في الشوارع، بعد طول إهمال وتضييع للمسؤوليات.
اليوم، ينعقد مجلس النواب في جلسة تشريعية قد يقرّ فيها قانون «الادارة المتكاملة للنفايات الصلبة»، تحت شعار «ممنوع رمي المسؤوليات تحت طائلة عودة النفايات الى الشوارع»! عند هذا الحد، يمكن القول إن وصول القانون، مهما كان شكله والانتقادات حوله، الى مجلس النواب وعرضه على الهيئة العامة هو إنجاز… ولكن!
تحديد المسؤوليات من صلب دوافع أي قانون، أو ما يسمى «الأسباب الموجبة»، إلا أن هذه الأسباب لم تظهر جلية في مشروع القانون المطروح، لسبب جوهري وبسيط، هو أنه لم تسبقه استراتيجية تحدد فيها الدولة او الحكومة كيف تريد أن تعالج هذه المشكلة بكل تفاصيلها وتفرعاتها على المديين المتوسط والبعيد. فوزارة البيئة التي كانت موكلة بهذه المهمة، حسب قانون البيئة، لم تنجح في التصدي لها عبر اقتراح استراتيجية ينجم عنها اقتراح قانون. وهذا النقص الاستراتيجي هو ما جعل المشروع المعروض على الهيئة العامة اليوم مولوداً هجيناً، غير قابل للحياة، ولا قادراً على معالجة الازمة الوطنية التي وقعنا فيها منذ عام 2015، عندما بقي أكثر من نصف نفايات لبنان المنزلية الصلبة (نفايات بيروت والقسم الأكبر من جبل لبنان) في الشوارع، فيما يجري «التخلص» من القسم الأكبر من نفايات بقية المناطق في مكبات عشوائية، تتسبب بمشاكل لا تحصى.
«عجلة» عمرها 13 سنة
لعل أهم نواقص القانون المعروض امام مجلس النواب انه لا يشمل كل أنواع النفايات، لا سيما السائلة التي تعدّ الأخطر و الأكثر تسبباً في تلويث المياه الجوفية والأنهار والبحار والمزروعات والنظام الغذائي. بل تضمّن فقرة تتعهد وزارة البيئة فيها بوضع استراتيجية خلال سنة من إقرار القانون! الاوساط العليمة في وزارة البيئة عزت ذلك الى «الظروف الطارئة» التي تحتّم الاسراع في ولادة القانون. إلا أن المتابعين للملف يعرفون تماماً أن اول مسودة لهذا القانون ظهرت عام 2005، وأقر مجلس الوزراء صيغته النهائية عام 2012 وتم تحويله كمشروع قانون الى مجلس النواب للمرة الأولى في العام نفسه بموجب مرسوم حمل الرقم 8003. فما معنى أن نتحدث أكثر من عشر سنوات عن حالة طوارئ ولا نعمل على استراتيجية تخدم 25 عاماً كانت تتطلب سنة على الأكثر لاعدادها؟ الجواب على ذلك واضح، في موضوع النفايات كما في المواضيع الاخرى الشبيهة، وهو أن من يضغط فعلا لإقرار قانون النفايات (كما قانون المياه)، قبل وضع استراتيجية شاملة، هم المستثمرون في هذه القطاعات، وليس «الظروف الطارئة» وحاجات الناس وكل ما تنص عليه الأسباب الموجبة! هكذا يمكن أن نفسر العجلة لإقرار القانون، مع أن المشكلة بدأت بالظهور منذ نهاية الحرب الاهلية وإقفال مكب النورماندي وانشاء شركة «سوليدير» وتلزيمها معالجة المكب لشركة اميركية بكلفة عالية جداً، واستحداث مكب برج حمود ومن ثم اقفاله عام 1997، للانتقال الى أول خطة طارئة قامت على مطمر الناعمة الشهير… حتى انتقلنا الى الخطط الشاطئية الاخيرة الاكثر سوءاً بما لا يقاس.
نواقص أساسية
في مشروع القانون نواقص جوهرية، تبدأ بالتعريفات التي لا تشمل كل المعطيات، ولا تنتهي بالمبادئ التي كان يفترض أن تكون اشمل وعلى أساسها يتم وضع الأولويات والافضليات للمفاضلة بين التقنيات وما الذي يفترض تشجيعه أو تجنّبه، وطرق التخفيف والمهل الزمنية لكل خيار والإطار القانوني وتقسيم المسؤوليات وكيفية التمويل… اضافة الى المحفزات والعقوبات…الخ. وقد تجاهلت وزارة البيئة واللجان المشتركة ولجنة البيئة النيابية توصيات الندوة التي نظمتها الامانة العامة لمجلس النواب بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة للبيئة وبرنامج الأمم المتحدة الانمائي (12 نيسان العام 2017)، والتي اقترحت أكثر من عشرة مبادئ اضافية ليست موجودة في مشروع القانون، يمكن عبر اعتمادها خفض حجم النفايات أكثر من 30% من حجمها، عبر تطبيق «مبدأ التخفيف» على سبيل المثال، ووضع نظام ضرائبي على المنتجات التي تتحول الى نفايات خطرة او تصعب اعادة تصنيعها أو تكون غير قابلة للتفكك والتحلل، لدفع المصنّع والتاجر والمستهلك الى تغيير سلوكهم والبحث عن بدائل توفر على البيئة والاقتصاد والموارد معا.
تضارب الصلاحيات
كان مطلوباً من القانون المنتظر أن يحدّد الصلاحيات في ادارة هذا الملف بعدما كانت حتى الامس القريب موضع تنازع بين وزارة البيئة ومجلس الانماء والاعمار ووزارة الداخلية والبلديات والبلديات ووزارة التنمية الإدارية والقطاع الخاص والجمعيات والجهات الدولية المانحة او المستثمرة في هذا القطاع. لكنه لم ينجح في تقسيم المسؤوليات لافتقاره إلى المبادئ الكافية في كيفية إدارة هذا القطاع التي كان يفترض أن تحدد في الاستراتيجية. فمشروع القانون، كما اقترحته وزارة البيئة، يمنح هذه الاخيرة صلاحيات واسعة، لا سيما في البند التنفيذي الذي يقترح إنشاء «الهيئة الوطنية لإدارة النفايات الصلبة» التي تتمتّع باستقلالية مالية وإدارية وتخضع لوصاية وزير البيئة، وتخضع لأنظمتها الداخلية وأحكام هذا القانون وليس لأحكام النظام العام للمؤسسات العامة أو لمجلس الخدمة المدنية، بل لرقابة ديوان المحاسبة اللاحقة. ويقترح مشروع القانون أن يعيّن مجلس إدارة الهيئة ويحدّد نظامها وأصول التوظيف فيها وسلّم الرتب والرواتب بمرسوم يتّخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير البيئة، وأن تناط بها صلاحيات كثيرة وكبيرة منها: إعداد دفاتر الشروط الفنيّة والإدارية الخاصة بالمشاريع المركزية المتعلّقة بدراسات تقييم الأثر البيئي، وتنفيذ الاستراتيجية الوطنية للإدارة المتكاملة للنفايات الصلبة، وإجراء المناقصات الخاصة بالمشاريع المركزية المتعلّقة بتنفيذ هذه الاستراتيجية والإشراف عليها، وتقديم المشورة إلى وزير البيئة في شأن المشاريع المختلطة وتلك التي تطرحها الإدارات المحليّة لإدارة النفايات الصلبة لجهّة جدواها البيئية والاقتصادية، وفي شأن تقنيات معالجة النفايات بشكل عام. على أن يتولّى مجلس الإنماء والإعمار تنفيذ المشاريع المركزيّة، لحين بدء العمل بالهيئة. إلا أن اللجان المشتركة، قامت بتعديل وحيد وجوهري على مشروع القانون بشبه إجماع، ونقلت سلطة الوصاية من وزير البيئة الى مجلس الوزراء.
وكانت المفاجأة أن وزير البيئة علق ايجابا في اليوم التالي على إقرار اللجان للقانون والتعديل، من دون أن يعرف ماذا حصل ولا طلب المراجعة ودراسة التعديلات! وقد رد من سعى من النواب الى هذا التعديل، الاسباب، الى ضعف الوزير والوزارة التي لن تستطيع أن تتحمل مسؤولية ادارة هذا الملف وحدها! فكيف يمكن البناء في الاستراتيجيات والقوانين على حالات غير طبيعية، وقد اعترف التيار السياسي الذي يمثله وزير البيئة، بأن رئيسه كان في صدد إجراء تغيير حكومي ولم تسعفه الظروف السياسية. انطلاقا من ذلك، يصبح التشريع في ظل «غياب» وزارة البيئة أمرا غير جائز، وهناك أسباب موجبة لرد القانون، حتى تشكيل حكومة جديدة، مع وزير جديد بالطبع، وقد استفادت الكتل السياسية التي ستسميه من هذه التجربة القاسية التي أضاع فيها وزير البيئة الكثير من الفرص، ومنها فرصة وضع استراتيجية شاملة ومستدامة وتعديل قانون النفايات ليتماشى معها.
التفكك الطبيعي ام الحراري
وفق المبادئ التي أقرها القانون وتلك التي لم ترد فيه، يفترض اعطاء الاولوية في معالجة النفايات للتفكك الطبيعي للنفايات على التفكك الحراري بالطبع. الا أن قوة المصالح فرضت أن تكون المشاريع والاستثمارات الكبرى هي صاحبة البصمة الأكبر في التعديلات التي اضيفت اليه على عجل تسهيلا لخيار الحرق المتخذ في مجلس الوزراء منذ عام 2010. لذلك، باستثناء الفكرة المركزية التي تقول ان احد اهم مخاطر هذا القانون انه يسمح ويسهل اتخاذ خيارات استراتيجية لمدة 25 سنة على الاقل باعتماد تقنية حرق النفايات، من دون ان تكون هناك استراتيجية تبرر هذا الخيار بشكل مقنع وكاف! يمكن القول ايضا ان وجود قانون بحد ذاته افضل من الفوضى التي نعيش فيها منذ نهاية الحرب الاهلية بطرق ادارة هذا الملف بالطرق العشوائية، وان هناك امكانيات لاعادة سحبه وطلب تعديله اذا وصل الى وزارة البيئة وزير ملمّ يعرف كيف يتعامل مع هذه الوزارة بمسؤولية كوزارة سيادية وحياتية ووجودية بامتياز، خصوصا ان اكثر من نصف اعضاء البرلمان جدد، يحتاجون الى بعض الوقت للاطلاع على ملفات معقدة وتقنية في جانب منها، وهي فكرة لمصلحة رد القانون اكثر مما هي لمصلحة اقراره بسرعة. وفي هذا السياق، يفترض بالنواب عدم تجاهل الملاحظات العميقة والشاملة التي قدّمها «ائتلاف ادارة النفايات» (دعا الى الاعتصام امام مجلس النواب اليوم) ومناقشة اهم ما جاء فيها، وعلى اساسها يتم تحميل المسؤوليات والمحاسبة من الآن فصاعداً.