IMLebanon

أسئلة عن دور “القوّات” وبكركي بانتشال المسيحيِّين من مواجهة محتومة مع محيطهم!

كتبت رلى موفّق في صحيفة “اللواء”:

يَعتبر البعض أن المشكلة  ليست في تبني الأب الروحي لـ «التيار الوطني الحر» ميشال عون خياراً سياسياً داعماً في العمق الاستراتيجي لتحالف الأقليات، فذلك يُعبّر عن خيارات الفريق المسيحي الذي يمثله، وإن كان هؤلاء يرون أن عون بعدما أصبح رئيساً للجمهورية يُفترض به أن يكون حامل رؤى وطنية تُجسّد، قولاً وفعلاً، مصلحة لبنان العليا ومصلحة أبنائه.

المشكلة، في رأي متابعين، تكمن في غياب الخيار المسيحي السياسي المناهض لخيار تحالف الأقليات، والذي يُفترض أن يتجسّد لدى هؤلاء  في تأكيد انتماء لبنان إلى محيطه العربي، وفي ترجمة معنى لبنان ببعد تلاقيه المسيحي – الإسلامي  في إطار العيش المشترك لأبنائه. الكلام هنا يطال القوى السياسية المسيحية وتحديداً «القوات اللبنانية» التي تقدّم نفسها، وخصوصاً في ضوء الانتخابات النيابية، على أنها قوّة وازنة مساوية في حجم التمثيل لـ «التيار العوني».

فاللحظة الحرجة التي تمـرّ بها المنطقة هي لحظة خيارات كبرى، بحيث لا يعود للحسابات الخاصة أو الطموحات الشخصية مكانها الفعلي العملي. ووقوع تلك «القوات» أسيرة طموحاتها في استحقاقات قد تكون قريبة، يدل على تشوّش في القراءة الاستراتيجية. فالرهان على إمكانية «خرق ما» لمحور إيران – «حزب الله»، من زاوية نزع الـ «فيتو» على إمكانية مستقبلية لرئيسها سمير جعجع للوصول إلى سدة الرئاسة، هو رهان كبير يشكل تحولاً جذرياً عند «القوات» تماماً كما عند هذا المحور حيال المنطلقات العقائدية والفكرية والسياسية.

حراجة اللحظة لدى المسيحيين  تكمن في الخيار الاستراتيجي لأعلى موقع سياسي لهم، المتمثل برئيس الجمهورية الملتصق أكثر بالمحور الإيراني الذي يعيش حالة  مأزومة، هي الأصعب، ومساراً انحدارياً سريعاً وسط حصار سياسي واقتصادي، وهو خيار يضعهم في موقع المواجهة المحتومة مع محيطهم في ظل غياب خيار سياسي مسيحي جليّ يُشكّل نوعاً من التوازن المفقود وعباءة لهم.

واقع يجعل التحدّيات أكبر أمام الكنيسة التي لم تَحِد عن ثوابت العيش المشترك وعن قناعتها وفهمها للبنان الرسالة، على الرغم من بهتان الدور والزخم الذي كانت تشكله تاريخياً، وما تركه البطريرك مار نصر الله بطرس صفير، خلال العقود الماضية، من بصمات في قيادة معركة سيادة لبنان واستقلاله وفي انتفاضة العام 2005. فالكنيسة، عاجلاً أم آجلاً، ستجد نفسها «في موقع الضرورة» لتصويب البوصلة حماية للبنان ولمسيحييه، وخصوصاً أنها تعيش مرحلة التحوّلات التي يشهدها الفاتيكان وخطوات الانفتاح التي يتبناها تجاه الحوار العميق مع الأزهر ومع المملكة العربية السعودية، في هذا الوقت بالذات.

وستكون المسؤولية مضاعفة على رأس الكنيسة البطريرك بشارة الراعي، الذي سبق أن لبّى دعوة السعودية، كأول بطريرك ماروني يزور أرض الحرمين، ليلاقي خيار الانفتاح ونهج الحوار بين الثقافات والأديان الذي تعمل المملكة على تكريسه من موقعها القيادي للعالم الإسلامي، بحيث أضحت دقة المرحلة تحتاج إلى المراكمة على ما جرى بناؤه، وإلى استكمال بناء جسور الأمان، ليس داخلياً فحسب حيث التوترات الطائفية استفاقت مؤخراً في الجبل قلب لبنان وأساس وجوده، بل خارجياً على المستوى الإسلامي العربي ذي الغالبية السنية، فتمدّد إيران إلى دول المنطقة من بوابة الشيعة العرب وقضية فلسطين ومشروعها العقائدي التوسعي وحلم استعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية، دفع إلى رفع منسوب الصراع السني – الشيعي.

تلك القراءة لواقع حال المسيحيين في لبنان، والذي بدا صادماً بعد موقف رئيس الجمهورية في حديثه لجريدة «لو فيغارو» الفرنسية في دفاعه المستميت عن «حزب الله» وسلاحه وموقعه، جازماً بأن «الحزب» يلتزم بقرار الدولة ولا يأخذ خطوات الحرب بمعزل عنها، ولم يُوجّه سلاحه للداخل يوماً وتخلى عن مشروعه العقائدي، تطرح تساؤلاً عن مسؤولية ليس فقط الأطراف السياسية المسيحية التي أوصلته إلى سدة الرئاسة، بل أيضاً الأطراف السياسية الإسلامية التي ذهبت إلى التسوية الرئاسية.

في نظر المتابعين لمجريات التسوية، أن من أسباب ذهاب زعيم السنّة الأول سعد الحريري إلى خيار «عون رئيساً للجمهورية» حاجة الرجل للعودة إلى قلب الحُكم من موقع رئاسة الحكومة، لكن ذلك لا يلغي حقيقة أن الحريري ذهب إلى هذا الخيار  أيضاً نتيجة اقتناعه بأنه الأمثل لحماية لبنان و«اتفاق الطائف» في ظل موازين القوى التي حكمت الداخل والمنطقة آنذاك. وهو اليوم مُدرك بأن المجازفة في أي «دعسة ناقصة» في تشكيل الحكومة من شأنها أن تشكل خطراً حقيقياً على البلد، وأن «تُطيِّره».

ولعل الأهم إدراك الحريري بأن الخروج عن «سياسة النأي بالنفس»، بالشكل الذي يحصل، من شأنه أن يؤدي إلى وضع لبنان، ليس فقط في مواجهة دول الخليج، ولا سيما تلك التي تخوض معركة مصيرية مع إيران، إنما أيضاً في مواجهة المجتمع الدولي الذي محض لبنان ثقته ودعمه بمؤتمرات ثلاثة، من روما إلى بروكسل إلى باريس، وخصّه في مؤتمر «سيدر» بحزمة من المشاريع، ذلك أن مشاريع الهبات والقروض التي أقرّت للبنان لمساعدة اقتصاده جاءت متلازمة مع تأكيد التزام  حكومة لبنان ضمان احترام المعايير الدولية على صعيد الشفافية والمساءلة ومكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. وشكّل بيان  مجموعة الدعم الدولي بعد أزمة الحريري مع المملكة وعودته عن الاستقالة تعبيراً أبلغ، حين لم يكتفِ بالتنويه بقرار مجلس الوزراء المتمثل بالنأي بالنفس عن الصراعات والحروب الإقليمية في المنطقة وعن التدخل بشؤون البلدان العربية، بل أعلن أنه سيولي اهتماماً خاصاً لتنفيذ جميع الأطراف اللبنانية هذا القرار.

فالتساؤل الذي يفرض نفسه بقوة: أي مصلحة تجعل رئيس الجمهورية يذهب إلى هذا المدى من المجاهرة بموقفه الداعم لمحور إيران – «حزب الله» الذي لا يخدم حماية لبنان؟ وإذا كان هذا الموقف منطلقاً من حسابات شخصية لتمهيد الطريق أمام صهره جبران باسيل – الذي استفاق على مشرقية مفاجئة – لوصوله إلى قصر بعبدا، فإنه بذلك يقطع كل احتمالات وصوله لا سيما أن هذا المحور ليس في مرحلة صعود قادر أن يملي شروطه، كما كانت الحال عليه قبل سنوات حين مكنته المعادلة من تعطيل الرئاسة وتخيير اللبنانيين بين الفراغ القاتل وبينه  رئيساً.

فإيران تواجه حصاراً خانقاً استوجب اعترافاً صريحاً من الأمين العام لـ «حزب الله» أنها ستذهب بعد أسابيع إلى استحقاق كبير وخطير مع بدء العقوبات الأميركية، وإلى تحضير بيئته الحاضنة لوجوب الوقوف إلى جانبها سياسياً وإعلامياً وشعبياً ومعنوياً وعلى كل صعيد في مواجهة الحصار والعقوبات والضغط. ولا يمكن تالياً النظر إلى كلام عون إلا في سياق قراره وتياره بالذهاب في هذا الخيار مهما كانت الكلفة كبيرة، بما فيها كلفة استخدام لبنان على «كل صعيد» وفق تعبير نصر الله، حتى وإن كان ذلك الذهاب إلى استخدام لبنان اقتصادياً ومالياً للالتفاف على العقوبات أو الذهاب إلى استخدامه عسكرياً في حرب قد تُفرض على لبنان من دون استئذان الحزب للبنانيين!