كتبت سناء الجاك في صحيفة “الشرق الأوسط”:
يلجأ الأهالي في بعلبك – الهرمل إلى «التقية» خلال حديثهم إلى الإعلام، سواء كانوا من بيئة «حزب الله»، أو «حركة أمل»، أو من خارجها، أو كانوا حياديين لا يهتمون إلا بشؤونهم بعيداً عن الهموم السياسية. يتلفتون حولهم، يخفضون أصواتهم، أو قد ينتقلون من طاولة إلى أخرى في المقهى تجنباً لمسترقي السمع، حيث التقت «الشرق الأوسط» ببعضهم، خلال جولة ميدانية في البقاع الشمالي، لاستطلاع آرائهم بشأن القضايا التي ترتبط بمنطقتهم، سواء قضية «الطفار»، وهم المطلوبون بمذكرات توقيف، وقانون العفو الموجود اقتراح مشروعه على طاولة البحث التشريعي لإقراره وفي عناوين الخطابات الهادفة إلى إعادة ترميم العلاقة بين الثنائي الشيعي وأهالي المنطقة.
قلة نادرة من الذين تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» توافق على كشف هويتها الحقيقية. الرقابة الذاتية لها الأولوية. الغالبية تشدد على عبارة «من دون ذكر الأسماء» عندما تكشف عما يعايشه أبناء هذه المنطقة اللبنانية المهملة من السلطات الرسمية ومنذ استقلال لبنان عام 1943. والواقعة
تحت سيطرة اللاقانون، والمصنفة «خزان المقاومة» لـ«حزب الله». بالتالي أسماء من تحدثوا مستعارة وغير صحيحة.
حصيلة الجولة الميدانية تؤدي إلى الاستنتاج أن الأسلوب المعتمد هو ذاته، سواء لجهة فرض الخوات في بعلبك أو في عرسال، أو للخطف مقابل الفدية، أو لتصفية الحسابات مع من تسقط ورقته أو مع من يشكل اعتقاله تهديداً لمن كان يؤمن الغطاء له من كبار تجار المخدرات أو صغارهم، أو لتمرير مخطط بعينه كما جرى في عرسال، أو لقمع المتمردين على «بيئة المقاومة» والمفروض تأديبهم، بأيدي أشقائهم، تجنباً للمواجهات مع العشائر. ولا تنتهي الأمثلة الطالعة من معاناة منطقة مطلوب أن تبقى خارجة عن القانون، ليصار إلى استخدام من فيها عندما تدعو الحاجة وفق المخططات المطلوبة لمشروعات قوى الأمر الواقع، وبالتعاون مع مسؤولين في أجهزة أمنية، كما كان قد كشف النائب جميل السيد في تصريح له عن تورط أمنيين مع العصابات، أو كما يؤكد عدد كبير ممن حاورتهم «الشرق الأوسط» خلال جولتها.
كذلك بينت الجولة الكم الهائل من الإهمال والحرمان في المنطقة، سواء لجهة البنى التحية من ماء وكهرباء وطرق وما إلى ذلك، مقارنة بالمناطق الأخرى، وبالجنوب اللبناني تحديداً، كما يثير بعض المسؤولين ومعظم الأهالي، وارتفاع نسبة الانفلات الأمني كلما ابتعدنا عن بعلبك، حيث الحضور الكثيف للجيش اللبناني بموجب خطة أمنية بدأ تنفيذها بعد مرحلة دامية من الفوضى أدت إلى سقوط عدد كبير من الضحايا نتيجة استخدام السلاح المتفلت.
لكن المفارقة في أن أحد حواجز الجيش، ينسحب عناصره مساء، ليحل مكانهم عناصر من «حزب الله»، ويقطعون الطريق في الاتجاهين، خلال إحياء مراسم عاشوراء في إحدى الحسينيات وسط بعلبك.
السلاح غير الظاهر في الشوارع، يطل وبكثافة في قرى قريبة، سواء كان للأمن الذاتي لبعض الشخصيات، أو لمواكب شخصيات أخرى يعرفها أبناء المنطقة، وغالبيتها لكبار تجار المخدرات، كما يقولون.
حقول حشيشة الكيف بدأ محصولها يميل إلى الاحمرار، وحان أوان القطاف. لذا يبدو مألوفاً وعادياً مشهد أم وأولادها يجنون المحصول، يخلصون الأوراق من جذوعها، ويقطعونها بسكاكينهم، غير عابئين بالعابرين. لكن حذار من الاقتراب إلى حد يشعرهم بالانزعاج من النظرات الفضولية. عادة، الحشيشة للتصدير وليست للاستهلاك المحلي، أهل بعلبك الهرمل لا يدمنون الحشيشة، هناك مشكلة تعاطي الحبوب المخدرة. لكنها تبقى أقل بكثير من تعاطي أهل المدن، وتحديداً بيروت.
يعتبر البعض أن تشريع الحشيشة ضد مصالح كبار التجار الذين يخافون أن يصبح العرض أكثر من الطلب وتنخفض الأسعار، لا سيما بعد الإكراميات بمنح الرخص للمؤيدين من أبناء المنطقة أو بدفع الرشاوى للغاية ذاتها.
انعدام الثقة بالدولة هو القاسم المشترك بين الجميع. والتمييز بين الدولة و«حزب الله» يخضع لوجهات نظر. فمن يؤيد الحزب يصر على اعتباره الخلاص الوحيد الذي يعوض غياب الدولة، من خلال الرواتب الثابتة لنحو 20 في المائة من أبناء بعلبك – الهرمل، إضافة إلى المساعدات ببطاقات التموين ومؤسسات الحزب الطبية والاجتماعية والتعليمية.
الحرب في سوريا شكلت مصدراً مالياً لعائلات كثر. لكن تجدر الإشارة إلى أن نسبة كبيرة من المقاتلين غير المتفرغين عادوا الشهر الماضي، هم يقبضون الآن نصف راتب ويبقون في بيوتهم إلى حين الحاجة إليهم.
ومن يخرج عن التأييد، ونسبتهم كبيرة، وإن كانوا نخبويين وغير قادرين على إحداث التغيير الذي يأملون أو يعملون له، يرى أن الحزب هو الدولة، أو أن الدولة في هذه المنطقة تحديداً ليست سوى ذراع من أذرع الحزب، ترتهن لسياساته وتنفذ أهدافه.
والحديث عن انحسار هيمنة الثنائية الشيعية، تراه الأكثرية حلماً بعيد المنال، فالانتخابات لم تفرز التغيير المطلوب، ما يدل على أن الكلام المتذمر لا ينعكس أفعالاً، كما أن الوضع الاقتصادي يحكم على أصحاب الدخل المحدود اللجوء إلى مؤسسات الحزب لتدبير أمورهم المعيشية، بالتالي التمرد والانقلاب على هذا الوضع، لا تزال دونه عقبات. كما أن اختراق الحزب العشائر والعائلات الكبيرة، وفق سياسة مستجدة، عبر تعيين «عشائريين» في مراكز قيادية، الأمر الذي لم يكن قائماً، أو عبر لجان الصلح التي تتولى حل النزاعات بين أبناء العشيرة الواحدة أو بين عشيرتين. أو عبر تسهيل هروب البعض إلى القصير في سوريا، حيث يسيطر الحزب وتعمل مؤسساته وكأنها في لبنان.
ويتحدث مرجع كبير معارض لـ«حزب الله» عن جرائم بالجملة وعن اختراق العشائر وعن وعن. ويصل بالمؤامرة إلى أن وجود الحزب ضرورة لقوى إقليمية ودولية لحماية أمن إسرائيل. ويحكي عن استخدام الأخ لتأديب أخيه إن حاول الخروج عن رضا الحزب.
فيما ترى قلة قليلة أن كرة الثلج بدأت تتدحرج، وبدأ العد العكسي لهيمنة «حزب الله» على المنطقة. فالإقبال على الانتخابات النيابية لم يكن على قدر طموح الحزب، وتحدي سيطرة الحزب في الانتخابات البلدية يرتفع منسوبه. ويروي هؤلاء أن «الحزب تكلف نحو مليون دولار في انتخابات بلدية بريتال (قضاء بعلبك)، للحؤول دون وصول معارضين له إلى المجلس البلدي. كما أن فوز الحزب جنب البلدة كارثة أمنية، فقد أعد عدته لتفجير الوضع إذا ما فاز منافسوه». ودائماً على ذمة الرواة.
وتبقى الملاحظة الأهم، والمتعلقة بموازين القوى بين طرفي الثنائي الشيعي. فالواضح ورغم اللافتات والصور المنتشرة على الطرق لحركة أمل ورئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي أقام مهرجان إحياء ذكرى الأمام الصدر في بعلبك أواخر الشهر الماضي، أن حديث الناس ينحصر بالحزب إما سلباً أو إيجاباً، ليغيب حضور «حركة أمل» كقوة فاعلة على الأرض، إلا من خلال مؤسسات الدولة، وتحضر إيران من خلال صور مرشدها الروحي الأمام علي خامنئي أو من خلال لوحات زرقاء تشبه لوحات أسماء القرى، تملأ الزوايا على امتداد الطرق في الهرمل، وتحمل عبارة «الشعب الإيراني في خدمة الشعب اللبناني».