IMLebanon

الحرب على وظيفة الحكومة

كتب حنا صالح في صحيفة “الشرق الأوسط”:

يمكن وصف الأسبوع اللبناني الأخير بأنه أسبوع الأحداث الكبيرة في مسيرة الانهيار المتعاظم حيث تُفرض الأعراف والممارسات على حساب الدستور والقانون. في ظلِّ حكومة تصريف أعمال انعقد المجلس النيابي في جلسة تشريعية شكّلت تسليماً كاملاً من أطراف المحاصصة السياسية بأن مسار تأليف الحكومة متوقف إلى أمدٍ بعيد، وتبعاً لذلك ثمة حاجة إلى «تعايش» مع هذا الوضع المأزوم.

المجلس النيابي الذي اكتشف فجأة حاجة استثنائية لما سُمي «تشريع الضرورة»، كان قد أُقفلت أبوابه مرتين بين عام 2007 وحتى نهاية عام 2016 لنحو خمس سنوات وذلك بقرار حزبي طائفي متطرف. المرة الأولى في عام 2007 لمنع تشريع المحكمة الدولية، وفرض هذا الإقفال وما تلاه كاحتلال بيروت في 7 (أيار) 2008 وما رافقه من قتل وترويع للناس، اتفاق الدوحة الذي شكّل أبرز طعنة للدستور واتفاق الطائف… عاد المجلس النيابي وأقفل أبوابه ثانية لمدة 30 شهراً انتهت بتسليم القوى النيابية بالشروط الرئاسية لـ«حزب الله»، فتم «انتخاب» مرشحه الوحيد العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية!

يعود اليوم المجلس النيابي الجديد – القديم ليبدي «الحرص» على تمرير تشريعات يتم وصفها بالضرورية، متجاهلاً دراسات دستورية ذات صدقية اعتبرت أن التشريع في غياب حكومة أصيلة يخلُّ بالتوازنات التي يقوم عليها النظام السياسي ويضرب أبرز أركان اتفاق الطائف. كل قانون يقره المجلس النيابي يجب أن ينشره رئيس الجمهورية خلال 15 يوماً، لكن صلاحيات الرئيس مقيّدة من دون وجود حكومة، وكل قانون بحاجة إلى مراسيم تطبيقية كي يصبح نافذاً، وهذه المسؤولية محصورة بالحكومة وبالدور المحوري لرئيسها، رئيس مجلس الوزراء، فهل المقصود أخذ البلد في إجراءات وتدابير بعيداً عن الحاجة إلى رئيس الوزراء وموقعه ومجلس الوزراء ودوره؟ وكي يكتمل النقل بالزعرور راحوا يبررون الارتكابات بضرورة «تنظيم الفراغ الدستوري» (!!) لتحصين البلد… إنه زمن البدع والترف في التحايل الدستوري.

الأحاديث عن التزام الدستور واحترام الصلاحيات لم تنجح في التغطية على أزمة دستورية أطلت برأسها بقوة على قاعدة تفسير مجتزأ لمواد دستورية و«اجتهادات» على الطلب وُضعت لتغطية رغبات رئاسية بالعودة لمرحلة قديمة، كان خلالها رئيس الجمهورية هو المرجع في اختيار الوزراء والحقائب، في حين ليس في نصوص الدستور بعد الطائف، ما يمنح رئيس الجمهورية هذه الصلاحية. رئيس الوزراء السابق تمام سلام وصف ما يجري بأنه «سابقة دستورية ونحن أمام جهات تعمل لإحداث سوابق تُعدل عمل الحياة الدستورية التي أُقرت في اتفاق الطائف».

قبل أسابيع كتبت أنه لن يكون مستغرباً أبداً أن يدشن رئيس الجمهورية السنة الثالثة من الولاية والبلاد من دون حكومة، وكل المعطيات تفيد بأن الرئيس عون ليس مستعجلاً (…)، والتأليف الذي كان متعثراً قد يصبح متعذراً رغم المناخ المأزوم السائد حيث الأزمات المالية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية تتناسل ومعها تتفاقم البطالة وتتسع الإفلاسات، وأهل المحاصصة يتصارعون على المغانم في الحكومة، وكل طرف عينه على الجزء الأكبر من كعكة المحاصصة، وهناك من يعتقد أن تعطيل التأليف الذي لا يتطابق بالكامل ورغبات محور الممانعة، يمنحه أفضلية في السباق الرئاسي، ومعركة الرئاسة مفتوحة وتحكم الكثير من السلوك السياسي، وسبق للرئيس عون أن اعتبر الوزير جبران باسيل المرشح المتقدم في السباق.

لا يَخفى أن وراء هذا المنحى توازناً يستند إلى قراءة متعجلة لنتائج الصراع الإقليمي الذي لم يصل إلى خواتيمه بعد، لكن الركون إليه سيؤدي إلى مزيد من تعطيل الدستور وتعليق القوانين النافذة ومنع قيام الدولة وتغول الدويلة. وحده «حزب الله» يريد الحكومة اليوم قبل غد، وهو فضلاً عن كونه الجهة القادرة على الإمساك بأكثر الخيوط فإن رؤيته لوظيفة الحكومة واضحة وجلية، إذ إلى جانب أولوية ما تمنحه له من غطاء ومتراس بوجه العقوبات التي تستهدف دوره، يرى وظيفتها الأولى الالتفاف على العقوبات الأميركية على إيران، ويراهن، قياساً على التجربة الرئاسية، على أن الجميع في النهاية سيسلمون بشروطه، والذريعة جاهزة وهي الحفاظ على الاستقرار المالي والاستقرار الأمني و«إنقاذ الطائف»، بينما واقع الحال يشير إلى سقوط كل الرهانات التي تم ربطها بالتسوية السياسية البائسة التي تدفع لبنان بسرعة إلى شفير الهاوية.

تزامناً مع الضغوط المعلنة لأخذ لبنان بحكومة أو من دون حكومة إلى محور الممانعة، ومع الدعوة التي أطلقها نصر الله لوقوف لبنان بجانب إيران، زار بيروت كريستوفر راي رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي، المسؤول الأبرز عن مكافحة الإرهاب وتبييض الأموال. هذا المستوى من الزيارات يحمل عادةً الكثير من الأمور، خصوصاً أن الزيارة تزامنت مع حدثين معبّرين؛ الأول أنها جاءت قبل وقت قصير من بدء أميركا حزمة العقوبات الجديدة على إيران التي تشمل القطاع النفطي والتي تطال ميليشيات الحرس الثوري ومن ضمنها «حزب الله». والثاني مع تشديد القبضة العالمية لتجفيف مصادر تمويل «حزب الله»، وآخرها كان في البرازيل وتمثَّل باعتقال أسعد بركات الذي تعتبره المصادر الغربية الممول الرئيسي لكثير من الأنشطة الإرهابية. ما توفر عن زيارة راي يؤكد أن واشنطن طالبت بيروت بحزم الالتزام بالعقوبات الأميركية ورفع الغطاء عن أي جهة قد تلجأ إلى تبييض الأموال. والتحذير كان واضحاً من أن عدم الالتزام سيعني عقوبات، وفي هذا السياق رسمت الزيارة خطاً بيانياً أمام المسؤولين الذين لم يعترضوا على ما حمله الضيف الأميركي وتوقيت الطرح الأميركي، ولا شك ستكون للزيارة نتائج على عملية التأليف المعطلة.

منذ انتهاء الحرب الأهلية حكمت الزبائنيةُ الدولة بكل مواقعها ومؤسساتها، وبعد عام 2005 وتحوُّل السيادة إلى وجهة نظر وتكريس المضيّ بسياسة تعليق الدستور، تعمقت اتجاهات الفساد المعلن، وتم تحويل بعض الوزارات والمؤسسات إلى إقطاعيات عائلية حزبية ومذهبية وهو ما أوصل البلد إلى هذا الدرك من الفساد، وبات البحث عن حكومة بوسعها إطلاق عملية جدية لإيقاف التدهور وفرملة الفساد والتزام حقوق الإنسان البدهية، مسألة بالغة التعقيد نتيجة غياب المعارضة الحقيقية وتعطل كل آليات وإمكانيات المحاسبة… ولا يعود مستغرباً، رغم الأزمة الخانقة والمديونية التي تهدد لبنان جدياً بما هو أفدح من نموذج اليونان، أن يكون الوفد اللبناني إلى الدورة الحالية للجمعية العامة للأمم المتحدة أحد أكبر الوفود الذي تطلّب نقله أسطولاً من الطائرات، وانطلقت في بيروت الحكايات عن مبرر الحاجة إلى كل هذه الاحتياطات الأمنية في نيويورك، وعما إذا كان الوفد اللبناني ذاهباً إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة أو لاحتلال العاصمة الاقتصادية والمالية للعالم.