كتبت كلير شكر في “الجمهورية”:
..وفي بداية الشهر الخامس للتكليف، بدا رئيس الجمهورية ميشال عون كمَن يلعب على الحافة. وفيما يحاول رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري تدويرَ زوايا العُقد الوزارية الحادة، من خلال الضغط على المكوّنات الحكومية لتخفيض سقوف مطالبها، راح رئيسُ الجمهورية إلى أقصى التصعيد: «فلتكن حكومة أكثرية إذا لم نتمكّن من تأليف حكومة ائتلافية، ومَن لا يريد المشاركة فليخرج منها»!..
رسالة واضحة وضوح الشمس وجّهها رئيس الجمهورية الى كل مَن يخالف وجهة سير «المعايير» التي وضعها لتأليف الحكومة، وهي تعني خصوصاً حزبي «القوات اللبنانية» و«التقدمي الاشتراكي»، اللذين يتصدّيان حتى اللحظة للأجندة الوزارية التي يحاول «التيار الوطني الحر» فرضَها بغية تقاسم الحصتيْن، المسيحية مع معراب، والدرزية مع المختارة.
لكنّ السؤال الأهم يتصل بموقف رئيس الحكومة المكلف من هذا «التهديد المبطّن» خصوصاً أنّ جولات التأليف كانت شاهداً حيّاً على سعي الحريري إلى مراعاة مصالح صديقيه، سمير جعجع ووليد جنبلاط، بلا إثارة غضب بعبدا وسخطها. ولكنه حتى الآن، لم يتمكن من بلوغ خواتيم سعيدة، لا بل تبدو الأمورُ أكثرَ تعقيداً.
ولعلّ سياسة إمساك العصا من الوسط التي يعتمدها رئيس الحكومة المكلف، هي التي دفعت «القوات» و«الاشتراكي» الى تكثيف قنوات التواصل الثنائية درءاً لأيّ سيناريو انقلابي قد تشهده مشاورات التأليف في أيّ لحظة.
اذاً، هي «المصيبة» التي جمعت الحزبين، وإن كان لكل منهما خصوصيّته وموقعه وحساباته، لكنه «الاستهداف» المشترَك كما يصفانه الذي جعل منسوب التنسيق بينهما يرتفع إلى حدود غير مسبوقة.
خاضت «القوات» الانتخابات النيابية في الجبل الى جانب الحزب التقدمي الاشتراكي بعدما تكبّر «التيار الوطني الحر» عن وضع يديه بيدي الاشتراكيين بحجة الخلاف حول بعض التفاصيل. فكانت النتيجة أن حافظت معراب على علاقتها بالمختارة ولو أنّها لم ترتقِ يوماً إلى مرتبة التحالف السياسي العميق.
بعد انتهاء «سكرة» الانتخابات، حرصت «القوات» على تجديد التنسيق مع المختارة، لكنّ الإطارَ المشترَك لم يتخطَّ الإطارَ المطلبي – الاجتماعي، ولكون التنسيق السياسي يحتاج إلى كثير من المجهود والمتطلبات غير المتوافرة، الذي قد ينفع، أو لا ينفع مع الزعامة الاشتراكية.
فالعلاقة مع جنبلاط ليست سهلة أو مضمونة أو في الإمكان ضبطها. في استطاعة الرجل القفز من ضفة إلى أخرى في ليلة لا ضوء للقمر فيها، بلا حسيب أو رقيب. فائض الزعامة الذي يؤمّنه له مريّدوه يسمح له بالقيام بأيّ شيء وفي أيّ وقت. ثمّة كثير من المبرّرات التي تتيح أن يفعل ما يشاء.
هكذا، هو قادر في هذه اللحظة أن يذهب في تصعيده الحكومي إلى حيث يريد وكيفما يريد. ناسُه من ورائه ولهذا الخطاب المتصلّب القدرة على شدّ عصب جمهوره. ويمكنه أيضاً أن يتراجع عند أيِّ محطة مفصليّة، ستكون له مبرّراتُه التي يغفرها له مؤيّدوه. وهو مهّد لهذا التراجع من خلال فتح كوة تسوية، وإن لم يكن وقتها بعد.
ولهذا بدا التقاربُ في الملف الحكومي محدوداً. يدرك جنبلاط جيداً أنّ جعجع محميّ بقبّة السعودية الحديدية التي تفتح له دارة الحريري ودعمه. ولكنّ زعيم المختارة لا يتمتع بالامتيازات نفسها. لا يزال فاقداً الغطاء الإقليمي، وإن تحسّنت علاقته بالممكلة لكنها لم تبلغ «الكمال».
من هذا المنظار يمكن توصيف «بروفيله» السياسي خلال السنوات الأخيرة: متجذّر في موقعه الوسطيّ، على أساس مهادنة مبطّنة لا تقطعها إلّا تغريداتُه التي غالباً ما تكون على شاكلة «قفشات» لا تُقدّم في المشهد السياسي ولا تُؤخّر، مقارنة بالدور المتقدّم الذي اختاره لنفسه في قيادة «قوى 14 آذار» بعد العام 2005.
ومع ذلك لم يتوانَ جنبلاط عن توجيه تحيّة دعم إلى «حكيم معراب» نهاية شهر آب الماضي، من مقرّ رئيس مجلس النواب نبيه بري في عين التينة حين اعتبر أنّ «مطلب «القوات» محقّ».
حتى إنّ التمريرة التي أبدى جنبلاط عبرها استعدادَه لتسهيل مهمة التأليف، تُركت لما بعد معالجة العقدة المسيحية، وقد فسّرت الخطوة، وفق المطّلعين على خطّ العلاقة الثنائية، على أنّها جرعة دعم غير مباشرة للموقف «القواتي». ولكن هذا لا يعني أبداً أنّ «القوات» و»التقدّمي» قرّرا الالتصاق بعضهما ببعض حكومياً. إذ إنّ اختلاف الوضعية تجعل من الصعوبة اعتمادهما وحدة مسار ومصير حكوميَّين.
لا بل أكثر من ذلك، ذهبت معلوماتٌ راصدة لحراكهما المشترَك إلى حدّ القول إنّهما حاولا صوغ تفاهم ثنائي يشبه «إعلان النيات» الموقّع بين «التيار الوطني الحر» و«القوات»، تكون ألفُه وباؤُه التفاهم الحكومي، وياؤه، الاستحقاق الرئاسي. لكنّ الطرفين ينفيان هذا السيناريو مكتفيَين بما حققاه ويحققانه من تنسيق، ولو بالمقدار البسيط.
وفق النظرة الجنبلاطية، يحاذر البيك إقحامَ حزبه في نفق الاصطفافات. لن يكون في وارد تكرار تجربة العام 2005. كلما زادت الحاجة إلى الانغماس مجدداً في قلب 14 آذار، كلما ازداد التصاقه في المقابل بالمحور الآخر من خلال بوابة صديقه بري. وليس مستعدّاً للتضحية بما رمّمه حتى الآن في العلاقة مع «حزب الله». لهذا يحاذر الرجل الدخول مجدداً في نمطية الجبهات المغلقة. ثمّة تنسيق مع «القوات» بسبب تقاطع الإستهداف المشترك، ولكن ليس الى درجة ربط «حبل السرّة».
وحين يصل الموسى إلى ذقن المختارة، قد يستدعي الأمر رفع «دوز» التنسيق مع معراب كونهما «مستفردَين» وفق تعبير الحزبين، من جانب العهد. من هذه الزاوية يمكن تصنيف مسارعة النائب أكرم شهيب إلى الجلوس في مكتب جعجع في معراب للبحث في طريقة رفع «منسوب المواجهة» خلال المرحلة المقبلة وتعزيزه. ومع ذلك ينفي المطّلعون على العلاقة الثنائية أن يكون هناك ثمّة توجّه لدى الحزبين لتصعيد مشترك في الملف الحكومي.