Site icon IMLebanon

30 موقعاً على لائحة الجرد: التراث وجهة نظر!

كتبت راجانا حمية في “الاخبار”:

 

لائحة الجرد العام للأبنية التراثية لا تحمي بناء ولا تحافظ على تراث. مهمتها «كسب الوقت» فقط قبل ان تنتهي الأبنية المدرجة فيها الى الهدم. في غياب أي آلية قانونية للحفاظ على هذه الأبنية، تبقى حمايتها خاضعة للاستنسابية والمزاجية والولاء السياسي.

قبل أيامٍ، نُزِعت أحجار ما تبقى من الجدار الروماني الذي كان، يوماً ما، سوراً لمدينة بيروت. لم يعد ثمّة سور هناك. لم يبق منه إلا صورة ألحقت، هي الأخرى، بأرشيف الأشياء «ذات الطابع التراثي».

قبل شهرين من ذلك، واجه بيت عتيق المصير نفسه، في العقار 1231، عند عتبة حي عبد الوهاب الإنكليزي في شارع مونو. يومها، وقف سكان الحي يتفرّجون على أحجار البيت تسقط واحداً تلو الآخر، رغم وجود قرارٍ لوزارة الثقافة بإدخاله في لائحة الجرد العام للأبنية التراثية. قبل ذلك، سقطت بيوت كثيرة «ذات طابع تراثي»، معظمها كان موضوعاً على اللائحة: «بيت ورد»، معمل البيرة، مبنى «آر ديكو»، فرن الحايك، بيت أمين معلوف، المرفأ الفينيقي، وغيرها. وبعدها، بيوت كثيرة موضوعة هي الأخرى على لائحة الجرد العام ستواجه المصير نفسه. وهو ما يدعو الى التساؤل عن جدواها بعدما تهاوى منها في السنوات القليلة الماضية ما لا يقلّ عن 20 منزلاً لتتضاءل إلى حدود 30 بيتاً.

في القرن الماضي، كان ثمة فصل في قانون «حماية الأبنية التاريخية» (1933)، يتحدّث عن لائحة جردٍ للأبنية التاريخية، تضم تعداداً للمواقع الأثرية والقلاع والقصور وغيرها من المواقع. جُمّد العمل بالقانون بسبب قدمه، فيما لا يزال مشروع اقتراح قانون بديل له حبيس أدراج المجلس النيابي منذ زمن.

في الانتظار، استُعير تعبير لائحة الجرد من القانون لضمان حماية بعض الأبنية التي صارت تنتمي لزمنٍ سابق وتستوجب المصلحة والمنفعة العامة الحفاظ عليها. لكنها لم تكن تلك استعارة رابحة لسببين: أولهما يتعلّق بالمفهوم الذي صيغ على أساسه القانون السابق الذي وردت فيه تسمية اللائحة للمرة الأولى، وثانيهما معايير التصنيف التي تختلف بين قرنين. في الشق الأول، تبدو 85 عاماً كافية لتجميد العمل بقانون صيغ في الأصل «لحماية الآثار»، ولم يطل ما جاء بعده من تغييرات في الأنماط العمرانية. فمن بعد هذا القانون، بنيت آلاف العمارات والأشكال الهندسية بقي القانون قاصراً عن ضمّها. «عندما نتحدث عن قانون للآثار، نعني ما نقول: الآثار وليس التراث، وهناك فارق كبير بين التعبيرين»، يقول مسؤول وحدة ترميم الأبنية الأثرية والتراثية في المديرية العامة للآثار الدكتور خالد الرفاعي. يتحدّث الرفاعي عن مفهوم الحفاظ على المعالم التراثية باعتباره مفهوماً «سوبر جديد»، وهو ما ينسحب تالياً على تعبير لائحة الجرد العام المستقاة من قانون العام 1933، التي تبقى مجرد تعبير مستعار لسدّ نقصٍ سببه تقاعس الدولة، موصول به الـ»point de vue politique” للوزراء المعنيين.
في الشق الثاني، يتحدّث العارفون في شؤون لائحة الجرد، ومنهم الرفاعي، عن معايير عبثية. فعدا عن أن معايير لائحة جرد القانون السابق لا تتواءم مع ما يفترض أن تكون عليه اليوم، لا يبدو أن ثمة معايير جامعة لتصنيف المبنى تراثياً أم لا. بتعبير آخر، «لا اتفاق على المعايير»، يقول الرفاعي. وإن كانت قد صيغت بعض المعايير للحفاظ على ماء وجه الدولة في ملف الأبنية التراثية، منها مراعاة العمر والخلفية التاريخية والجمالية المعمارية ونمط البناء والأهمية المدينية التخطيطية، إلا أن الإلتزام بها بقي استنسابياً. ويمكن فهم ذلك إذا ما اطلعنا على بعض طلبات التصنيف التي تأتي من زعماء سياسيين لتصنيف بيوتهم، لمجرّد أنها بيوتهم فقط! كما يمكن الحديث عن عقارات كثيرة دخلت لائحة الجرد لاستيفائها بعض تلك المعايير، ثم خرجت منها لانتفاء المعايير نفسها! وهنا تفيد الإشارة إلى عقار المصيطبة رقم 4199 المصنف على لائحة الجرد، والذي حاول 3 وزراء ثقافة نزعه منها. ماذا يعني كل ذلك؟ «يعني أننا أمام لائحة وهمية ومفتعلة، يُدخل فيها وزير الثقافة مبنى في اللائحة بناء على نصيحة من معماريين، ثم يأتي وزير آخر ويخرجه منها بناء على نصيحة أخرى»، يقول المعماري رهيف فياض. إذاً، لا مفعول قانونياً لها، بل هي «أضعف الإيمان. إذ أن مهمتها كسب الوقت ليس أكثر»، بحسب المهندس المعماري عبد الجليل جبر. تفتقد اللائحة الأهلية القانونية لأن لا مرسوم يلزم بها. وبحسب الناشط في جمعية «تراث بيروت»، رجا نجيم، هي أشبه بـ«الفرامات، بس كل فترة حدا بيرخيهن». واليوم، في ظل غياب القانون، يعوّل المعنيون على «نصوص قانونية مفرطعة»، وفق نجيم، للحفاظ على بعض تلك الأبنية، لكنها ليست كافية.

لا قانون ولا استملاك
كان بيتا فيروز والرئيس بشارة الخوري آخر بيتين أضيفا إلى لائحة الجرد، بقرار وزاري واستناداً لتقرير مجموعة مختارة من الخبراء والمهندسين المعماريين. بهذه الطريقة، تضاف المباني إلى اللائحة. لكنها، لا تصمد في غالبيتها فيها، فقرار الحماية هنا لا يحمي، ولائحة الجرد ليست «خيمة زرقا». غالباً ما تسقط مبانٍ منها بقرار وزير أيضاً، منها مثلاً العقار 1231 في حي عبد الوهاب الإنكليزي الذي أدرجه وزير الثقافة الأسبق غابي ليون في اللائحة ونزعه منها الوزير الحالي غطاس خوري، بقرار فردي ومن دون الرجوع لرأي المديرية العامة للآثار، معطياً موافقته على كتاب الهدم، مشروطاً بنص هشّ يتعلق بالحفاظ على الواجهة الخارجية. الأمر نفسه فعله ليون بالمرفأ الفينيقي وبيت أمين معلوف اللذين وضعا في اللائحة في عهد الوزير الذي سبقه. ولهذه الآلية حكاية تتعلّق بوجهة نظر الوزراء وجشع مالكي العقارات القديمة. هي حكاية ملف إما يقبل أو لا يقبل، إذ تحيل لجنة الخبراء في المديرية العامة للآثار الملف إلى وزير الثقافة لدراسته و«أخذ المقتضى». وللسياسة دورها هنا. ثمة ناخبون وأصحاب عقارات متمولون، ما يعني أن القضية، سياسياً، خاسرة. انطلاقاً من عمله في وحدة الأبنية التراثية، يتحدث الرفاعي عن كثير من قرارات «الإخراج» التي أتت مخالفة لرأي المديرية العامة للآثار. كيف يمكن رؤية هذا الأمر؟ بالرقم الذي وصلت إليه لائحة الجرد اليوم، والتي تستقر عند الرقم 30، بعدما كانت تضم أكثر من ثمانين مبنى. لكنها، سقطت نظراً لغياب قانون رادع، ولعجز المديرية العامة للآثار عن إدخال كل البيوت التراثية ضمن اللائحة واستملاكها أو ترميمها. ويلفت الرفاعي في هذا الإطار إلى أنه «إذا دخلت بيوت بيروت التراثية كلها في اللائحة بتفلس الدولة».

في ظلّ ذلك، نشأت لائحة جديدة تسمى بلائحة تجميد الهدم أو كتب تجميد الهدم. وهي تفترض أن كل بناء يتقدم مالكوه أو مستثمروه بكتاب إلى بلدية بيروت يطلبون هدمه «يجب أن يخضع لموافقة مسبقة من المديرية العامة للآثار»، بحسب الرفاعي. سبع سنوات سار الوضع على ما يرام، إلى أن خرج أول قرار قضائي يطعن بقرار المديرية.

اليوم، تضم هذه اللائحة نحو 250 بيتاً. خلال السنوات القليلة الماضية كانت تضم أكثر من ذلك، لكن الهدم قضى على 40 مبنى حتى استقرت عند هذا الرقم. أما كيف سقطت؟ هنا، يعود الرفاعي إلى عام 2014، تاريخ صدور أول قرار قضائي، عن الهيئة الحاكمة في مجلس شورى الدولة برئاسة القاضي شكري صادر، بسحب عقار كان موضوعاً على لائحة تجميد الهدم وإباحة هدمه. بعدها كرّت السبحة، فصار كل مالك مبنى قديم أو مستثمر يتوجه من فوره إلى مجلس شورى الدولة. هناك، اليوم، في شورى الدولة 80 ملفاً لبيوت تراثية، أو في أحسن الأحوال قديمة، تنتظر قرار القاضي للمباشرة في الهدم. هنا، يتبيّن العجز. فلا القانون موجود ولا الوزارة قادرة على استملاك المباني، ولا مجلس شورى الدولة «يبلع» لائحة تجميد الهدم، وهو الملتزم بالقانون 1933 المجمّد أصلاً!

عقب 15 عاماً من الحرب، بدأت ورش إعادة الإعمار. كانت تلك أول رحلة من مشوار كنس الذاكرة. جرفت شركة «سوليدير»، في إطار إعادة الإعمار، بيوتاً كثيرة. يومها، نفدت «سوليدير» بفعلتها بعدما صيغ لها مرسوم تنظيمي أباح لها ذلك. في تلك الفترة من تسعينيات القرن الماضي، كلف وزير الثقافة آنذاك ميشال إدّه «جمعية تشجيع حماية المواقع الطبيعية والأبنية القديمة في لبنان» (أبساد)، إجراء مسح للأبنية التراثية حول وسط بيروت التي يجب الحفاظ عليها. وصل العدد إلى 1017 مبنى «موزعة على 3 درجات: مهم. متوسط الأهمية. ضعيف»، بحسب المعماري عبد الجليل جبر. بدا في ذلك الوقت أن الـ1017 عدد كبير، فطُلب «من التنظيم المدني أن يختزل العدد بطريقة منطقية. وصلنا عندها إلى الرقم 570، وأرفقناها بتوصية تتعلق بالحفاظ على المباني المنفردة البارزة معمارياً والمجموعات التي تشكل نسيجاً معمارياً»، يتابع جبر. لكن، الدراسة لم تستقر عند هذا العدد، إذ قام التنظيم المدني، بالتعاون مع بلدية بيروت «بشطب 50 مبنى». بعد ذلك، أرسلت الدراسة إلى مجلس الوزراء الذي كلف مجلس الإنماء والإعمار إعادة النظر بالدراسة، فكلف الأخير شركة «خطيب وعلمي» التي اختزلت الرقم الى 209، من خلال تقسيم المعايير إلى خمس مجموعات (a,b,c,d,e)، حيث جرى الحفاظ على البيوت التي تنتمي إلى المجموعات الثلاث الأولى وإلغاء تلك التي تنتمي إلى المجموعتين الأخيرتين. هنا يتحدث الناشط في جمعية «تراث بيروت» رجا نجيم عن «معايير منقوصة تم الإستناد إليها لتقدير ما إذا كان البيت تراثياً أم لا». استندت الدراسة إلى «كل شي arcade قناطر، ولم تراع الحقبات التاريخية والعمرانية التي لحقت بعمارة القناطر والحجر الرملي، مثل بيوت مرحلة الأربعينيات ما بين الحجر والباطون وبيوت بيروت الستينيات».

لا دراسة جديدة أعادت تصنيف الأبنية التراثية المتبقية في بيروت. دراسة «آبساد» وما طرأ عليها من تعديلات كثيرة هي آخر دراسة أجريت. من بعدها، لا إحصاءات جديدة. لكن، يمكن الإستدلال من «فوق» العاصمة إلى ما صارت عليه الأمكنة التراثية، فسماء بيروت اليوم تعجّ بالناطحات ومكعبات الزجاج والإسمنت. وهذه ضريبة أخرى لعدم وجود قانون. لو كان هناك قانون، لكان «الأولى أن يكون بديل الهدم بناء يحافظ على النسيج الحضري للمنطقة»، يشير نجيم. في هذه الحالة، تسبق المصلحة العامة تلك الخاصة والتطوير العقاري.