تنعقد لجنة الإعلام والاتصالات النيابية، برئاسة النائب حسين الحاج حسن، للبحث في قضية أمن الإنترنت في لبنان. فهذا القطاع يبدو كمنزل أبوابه ونوافذه مخلّعة، يمكن أياً كان استراق النظر إلى داخله، بل تجاوز عتباته وسرقة ما يشاء منه. قضية المقرصن خليل الصحناوي، وما نتج عنها، كشفت هشاشة الأمن الإلكتروني في لبنان. الاجهزة الامنية الموكلة بحماية المجتمع من الاختراق هي المخترقة. والهيئة الرسمية المكلفة بتقديم خدمات الانترنت للمواطنين مخترقة أيضاً. كما أن هذه الهيئة لم تتخذ أي إجراءات لحماية شبكة الانترنت الوطنية من الاختراق، ومن الهجمات التي تهدف إلى تعطيل مواقع لشركات ومؤسسات.
بحث اللجنة النيابية لا شك في أنه سيسلّط الضوء، بصورة رسمية على القضية، وسيضع الكثير من النقاط على الحروف. فخلاصات اللجنة الرقابية تصلح لأن تكون وثيقة رسمية، يمكن الاستناد إليها لإنشاء لجنة تحقيق برلمانية، أو لإحالة أي ملف على القضاء. لكن، في بلد كلبنان، لا يمكن التعامل دوماً بجدية مع إحالة ملف ما على القضاء. فإجراء كهذا لا يعني حكماً أن القضية ستصل إلى خواتيمها، كإحقاق الحق، ومعاقبة المجرم. ثمة سوابق عدة تثبت ذلك. وقضية خليل الصحناوي تُظهر أن إبقاء مدعى عليه في السجن أمر بالغ الصعوبة، رغم خطورة الأفعال المنسوبة إليه. فالمشتبه في كونه الرأس المدبّر لأكبر عملية قرصنة في تاريخ لبنان، أفرج عنه بعد توقيفه بسبب تدخلات سياسية. وبعدما أعيد بقرار قضائي إلى السجن، لم تكف محاولات إخراجه، بشتى السبل الممكنة، علماً بأن ما يُنسب إليه يشمل اختراق «أوجيرو»، والأمن العام، والامن الداخلي، وشركات خاصة، واكتساب القدرة على التنصّت على الاتصالات الهاتفية الأرضية، وعلى المواقع الإلكترونية التي يزورها مستخدمو الهواتف الذكية وجمع بياناتهم المصرفية، وعلى التلاعب بداتا «أوجيرو» وبـ«النشرة الجرمية»، من دون ترك أي أثر إلكتروني! كل ذلك، وسط صمت إعلامي شبه تام، ربطاً بالعائلة التي ينتمي إليها الرجل، ونفوذها الكبير على المستويين المالي والسياسي. يُضاف إلى ما تقدّم، هجوم من بعض المواقع اللبنانية والخليجية (البحرينية تحديداً) على كل من يجرؤ على القيام بواجبه المهني ومتابعة هذه القضية، واتهامه بمحاولة ابتزاز آل الصحناوي. ووصل الامر بتلك المواقع إلى حد اتهام قاضي التحقيق في بيروت، أسعد بيرم، الذي يتولى متابعة قضية الصحناوي، بدعم «الإرهاب الحوثي»! أمام هذا الواقع، وبدل أن ينتفض مجلس القضاء الاعلى للدفاع عن القاضي، لجأ وزير العدل سليم جريصاتي أمس إلى إحالة الملف على التفتيش القضائي، وذلك قبل أقل من أسبوع على موعد جلسة تحقيق، ربما يتبعها بيرم بإصدار قرار اتهامي في الملف، في حال استكملت مديرية استخبارات الجيش التحقيق الذي طلبه القاضي منها، بعدما استنابها للسعي إلى فك شيفرات حفظ المعلومات على عشرات الحواسيب والأقراص التي صودرت من الصحناوي، والتي عجز محقّقو فرع المعلومات عن فكّها.
قرار جريصاتي فُسِّر ـــ من قبل معنيين بالملف ــــ بأنه ضغط على القاضي بيرم للتنحّي عن النظر في القضية. فهو لم ينتظر استكمال التحقيقات، ولا صدور القرار الظني. كما أن الضجة الإعلامية التي تذرّع بها جريصاتي لا تعدو كونها هجوماً على القاضي من موقعين لبنانيين، وآخرين خليجيين، فيما لم يحرّك جريصاتي ساكناً إزاء ملفات أخرى شهدت ضجيجاً إعلامياً وسياسياً، وتسريباً للتحقيقات، ومسّاً بسمعة القضاء وصورة الدولة ككل، كما في قضية توقيف الممثل المسرحي زياد عيتاني الذي أبقاه قراران قضائيان في السجن لاكثر من مئة يوم، ثم أثبتت براءته، من دون أن يتحمّل أحد مسؤولية بقائه في السجن. ويرى معنيون بالملف أن قرار جريصاتي ليس سوى تنفيذ لقرار سياسي بمنع استمرار بقاء الصحناوي في السجن، بصرف النظر عن خطورة الجريمة المرتكبة، والتي يُشتبه في وقوفه خلفها (مع تأكيد أن الصحناوي لا يزال يتمتع بالبراءة الكاملة).
في المقابل، يرد جريصاتي، في حديث مع «الأخبار»، بتأكيد أن الإجراء الذي قام به يهدف إلى حماية القاضي بيرم، والحصول على تأكيد من التفتيش القضائي بأن أي تسريب للتحقيقات لم يحصل من عند القضاء، وأن الصحناوي لم يُجرّم من دون دليل ونص قانوني. ويرفض جريصاتي جملة وتفصيلاً أي اتهام له بالخضوع لقرار سياسي، مشدداً على أن ملف القرصنة لا يشبه قضية عيتاني الذي برّأه القضاء. ويلفت وزير العدل إلى أنه أحال الملف، لا القاضي، على التفتيش، مؤكداً دعمه لبيرم «الذي أرى أنه من النواة الصلبة في قضاء التحقيق في بيروت». وقال جريصاتي إن «المراجع القضائية المختصة (مجلس القضاء الاعلى والنيابة العامة التمييزية) لم تتحرك للدفاع عن القاضي، ودائرة التشكيك تتسع لتشمل رئيس مجلس القضاء الاعلى والمدعي العام التمييزي والتفتيش القضائي، فكان لا بد لي من التحرك للحفاظ على نصاعة صورة القاضي بيرم والقضاء برمّته». وأكد جريصاتي انه سيطلب تحرّك النيابة العامة اليوم ضد الجهات التي اتهمت القاضي بدعم الإرهاب.
كلام جريصاتي الذي يهدف إلى طمأنة القاضي إلى كونه غير مستهدف بإحالة الملف على التفتيش لا يُقنع الكثير من المعنيين بالتحقيق. فبرأي هؤلاء أن قرار الإفراج عن الصحناوي وحماية الجهات او الأفراد الذين يقفون خلفه، قد صدر، وما يحول دون تنفيذه هو إصرار القضاء على السير بالتحقيق حتى نهايته، وإثبات براءة الموقوفين أو نزعها، بالدليل والقانون، لا بالسياسة ولا بالمال.